بالعلم ، وأخلاقه مشموله باللطف ، غير أنه توج بالحلم ، ومعاريضه تشحذ خاطر النديم ، ومحاورته تشفي من الداء السقيم ، ومكانته في الشعر عالية المنار ، وسامية المقدار. فمن أبياته النوافث ، التي أسكتت كل نافث ، ما عارض بها أقرانه ، وأبدع فيها أفنانه ، قوله :
تمنّع الحب لما |
|
رأى العوالم أسرى |
وقال إني مليك |
|
أطاع نهيا وأمرا |
والدهر عبدي وإني |
|
حزت المحاسن طرا |
فقلت قد تهت عجبا |
|
فأبدل العجب شكرا |
فقال كم من مليح |
|
لديّ يسخط قدرا |
يقول عجبا وتيها |
|
أليس لي ملك مصرا |
ومنهم السيد هاشم أفندي (١) ، عصامي المجد والعلو ، وذاتيّ الجد والسمو ، فطائر صيته صادح فوق النسر الواقع ، وسائر سعده رائح إلى الفلك الرابع ، هذب قريحته بمراجعة الأسفار ، وأشرب طويته في مطالعة الأخبار ، ومارس المشكلات بذهن وقاد ، ودارس المعضلات مع قوم نقاد ، فهو إخباريّ المحادثة ، نظريّ المباحثة ، متعمق في الألفاظ الواردة ، متأنق بالأدلة الشاهدة ، إذا شرع في الفقه أعجب به أهله ، وإذا نزع إلى أصوله أطاعه فرعه وأصله ، وإن أورد علوم العربية بلسانه ، شاقت العرب الأبية إلى براعة افتنانه ، وإن أجرى أبحر التفاعيل والصنج ، أجرى الشعراء على زنة كل خفيف وهزج ، شعره بعيد من الزحاف ، ورصفه سديد بلا خلاف ، فقره فقر عتبية ، وقوافيه قواف عربية.
من مبلغ الأعراب أني بعدها |
|
لاقيت رسطاليس والإسكندرا |
وأبياته في هذا المورد لا تفي بمقامه ، مع أنها في ديوان الأدب من بديع نظامه ، إذ هي فطرة من غيث هتون ، أو شذرة من در مكنون :
أجرى المدامع نهرا |
|
وصير القلب مصرا |
وهز عادل قدّ |
|
يطول وصفا وذكرا |
وصال باللحظ حربا |
|
ما حرب سيف وكسرى |
أسكنته بيت قلبي |
|
وصاحب البيت أدرى |
__________________
(١) هو الشيخ الكّلاسي المتوفى سنة ١٢٢٩ تقدمت له ترجمة موجزة.