يفعل كذا ، ولا ينسب له حالا ولا قالا.
وكان يحب العزلة عن الولاة فلا يأتي قاضيا ولا حاكما ولا كبيرا إلا عن ضرورة ، بل هم يأتونه متبركين بل طالبين لدعائه. وكان إذا طلبت منه مسألة علمية أو دعاء لأحد أو استشارة يجيب على الفور ، بل يمهل مقدار درجة أو أكثر أو أقل ، ثم يجيب بجواب سديد في غاية من التدقيق والتحقيق ، ولا يشير في أمر إلا ويكون فيه الصواب ، وإذا خالفه أحد في شيء ندم غاية الندم ، بل لا يسع أحد مخالفته.
وكان له أساليب عجيبة في علم السياسة والقيافة والفراسة ، فإذا تكلم مع الحكام قادهم إلى الحق بشعرة ، أو مع الصوفية بألطف إشارة ، ومع العوام والعلماء بأوضح عبارة.
وكان مجلسه وقارا وحياء ، وأتباعه إذا جلست حوله كأن الطير على رؤوسهم ، وهم معظمون وموقرون في قلوب الناس متبعون للسنة المحمدية مشهورون بالأدب والكمال ، فإنه كان مربيا لأخوانه لا يسامحهم في هفواتهم ولا يواجههم بها ، بل يعرض بمن وقع في هفوة كما كان صلىاللهعليهوسلم يقول : (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) فصاحب الهفوة يعلم أنه المراد من بين سائر الحاضرين.
ومرة رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في فلاة ناصبا صيوانا وهو يصلي إماما بالناس ، فعجلت المشي لإدراك الصلاة معه ، فسلم تسليمتين فجئت من على يمينه صلىاللهعليهوسلم لأقبل يده الشريفة ، فنظرت إلى يدي فرأيت فيها غمرا (١) لا تصلح لأخذ يد الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فأحنيت ظهري وقبلت يده بفمي ولم أمس يدي بيده لما فيها من الغمر ، فنظر إليّ صلىاللهعليهوسلم وقال : لابد أن الهلالية أهل أدب ، فشهد صلىاللهعليهوسلم لمن انتسب للهلالية بالأدب ، ولم أر أحدا منهم مثلي متضمخا بالأوساخ ، وصار منه صلىاللهعليهوسلم ما صار فكيف هم. وكانت كراماته تظهر على يده وهو يخفيها.
وقال له مرة أحد الولاة : أريد أن أجعل لك قناقا وحرما ، فقال له : نعم الأمير
__________________
(١) الغمر : السّهك وريح اللحم وما يعلق باليد من دسمه.