وبقي على هذه الحال في بلدة آبائه مرعش إلى أوائل القرن الثالث عشر حيث هاجر منها إلى حلب. وسبب هجرته أنه كان في مدينة مرعش فرقتان من السكان تتنازعان السيادة فيها شأن ذلك الزمن ، وهما عائلة البيازيدية (نسبة لبيازيد بلدة من معاملات أرزن الروم) وعائلة (الدلغادرية) وهي من نسل الدولة الدلغادرية التي كانت مستولية قبلا على مرعش إلى أن استولت عليها الدولة العثمانية وأخذتها منهم ، وكان بين العائلتين تنافس وضغائن كثيرا ما كانت تؤدي إلى القتال وإهراق الدماء ، وكان الشيخ ميالا للفرقة الأولى ، وحيث إنه كان مفتي البلدة معظما ومحترما عند الدولة العثمانية ورجال حكومتها وله الكلمة المسموعة لديهم وكلمته لا ترد عندهم ، فكانت فرقته متفوقة على الفرقة الثانية ، فعزم بعض الجهال من هذه الفرقة على قتله ، واختفوا ليلا أمام داره ، وبينما كان عائدا من صلاة العشاء مع بعض طلبته أطلق أحدهم رصاصة أصابت يد الشيخ ، فخر الشيخ مغشيا عليه ، فظن الطالب الذي كان مرافقا له أنه قد قتل ، فعاد إلى الجامع وصعد إلى منارتها ونادى بأعلى صوته إن الشيخ قد قتل ، واستنفر فرقته ، فخرجت الفرقتان بأسلحتهما واقتتلتا حتى سقط من الطرفين سبعة عشر قتيلا ما عدا الجرحى ، فلما بلغ المترجم الخبر قال : لا أسكن بلدة أكون سببا لوقوع القتلى فيها. وركب من ساعته وخرج مع بعض أشياعه قاصدا حلب ، فوافاها سنة ١٢١٠ تقريبا. ولما وصلها نزل في المدرسة العثمانية ، ثم حل ضيفا على مدرسها الشيخ حسن الكلزي ، وبعد أن تعارفا وعلم كل واحد منهم قدر صاحبه وعلمه وفضله قر رأي المترجم على البقاء في حلب واتخاذها وطنا ، وقد كان في بادىء الأمر عازما على الذهاب إلى الشام والإقامة فيها كي لا يرى أحدا ولا يراه أحد ممن يعرفه ويشغله على عبادة ربه والعزلة عن الناس ، فأصر عليه الشيخ حسن بالبقاء في حلب وزوجه ابنته ، وكان للمترجم ابنة في مرعش فأحضرها وزوجها لابن المترجم عبد الرحمن أفندي ، وبقي بعد ذلك في حلب إلى أن توفي فيها.
وكان رحمهالله مثابرا على خطته وسيرته الأولى وهي الانقطاع إلى الله بالعبادة والزهد والتقوى ، لا تشغله الدنيا عن الآخرة ، ولا يرى عملا يؤديه إلى رضاء الله إلا عمله ، فمن ذلك أن الدولة الإفرنسية لما احتلت مصر وذلك سنة ١٢١٢ وعزمت الدولة العثمانية على إخراجها منها وصارت ترسل الجيوش من البلاد ، فكان المترجم في مقدمة الذاهبين مع العساكر إليها وجاهد ثمة مع من جاهد ، إلى أن أذن الله بالفتح ورجوعها إلى حوزة