متعطشة إليه تعطش الظمآن إلى الماء البارد ، وذلك لقلة العلماء في ذلك الوقت لما حصل في حلب من الطاعون الذي فتك في تلك السنين فتكا ذريعا ذهب به كثير من العلماء إلى أن كادت الشهباء تخلو منهم ، وصارت تتخبط في دياجير الجهل ، ولحوادث الأنجكارية وتلك الوقائع وحوادث إبراهيم باشا المصري التي ذكرناها في أواخر الجزء الثالث التي قضت على كثير من العلماء وغيرهم بالهجرة من حلب. فلما تصدر للتدريس في هذه الأماكن تهافت الناس عليه وازدحموا حول منهله العذب ، وصار يقرأ الدروس المتعددة في فنون مختلفة من فقه وحديث وتفسير ونحو ومنطق وغير ذلك ، فلم تمض مدة من الزمن إلا وقد تخرج به رجال متعددون ، ومن ذلك الحين شاع فضله وبعد صيته وانتشر في الآفاق ذكره.
وكان شيخنا الكبير الشيخ محمد أفندي الزرقا كثير الثناء عليه معترفا بجلالة قدره وغزارة علمه ، وحسبه ثناء مثله عليه.
وفي حياة أخيه قرأ كتاب الدر المختار في الفقه الحنفي وذلك بأمر من أخيه الشيخ محمد المذكور ، وحضر عليه عدة من الأفاضل منهم الشيخ مصطفى الريحاوي والشيخ عقيل الزويتيني والشيخ عبد القادر سلطان والشيخ علي القلعجي ، وما كانت تعجبه حاشية العلامة ابن عابدين ، وكانت وقتئذ تستنسخ من الشام يستنسخها السيد راجي بيازيد أحد التجار المشاهير ليستفيد منها الطلاب ، ويقول إنها غير محررة ، وكانت تعجبه حاشية العلامة الطحطاوي على الدر وحاشية العلامة الحلبي ، وكان يقول : لو لا هاتان الحاشيتان لما تمكن ابن عابدين من تحشية هذا الكتاب.
ومن حين عودته من الأزهر إلى سنة ١٢٩٣ وهي السنة التي توفى فيها كان يقرأ الدروس يوميا بلا كلل ولا ملل ، من الصباح إلى قبيل الظهر يقرأ الدروس الخاصة في علوم شتى ، ومن الظهر إلى العصر صيفا وشتاء ربيعا وخريفا حتى في رمضان يقرأ درسا عاما في الجامع الكبير يبقى فيه مقدار أربع ساعات قاعدا على ركبتيه لا يغير قعدته. وربما قرأ في درسه الحديث أو الحديثين ويتكلم عليهما بالعجب العجاب بصورة تأخذ بمجامع القلب ، وقل أن يمل أحد من المستمعين الذي يقدرون في معظم الأوقات بأزيد من ألف شخص ، ويذكر أثناء ذلك أحوال الحكام ومظالمهم وتقصير العلماء وأحوال التجار وغشهم وكسل الفقراء ، وربما صرح بأسماء بعض الأشخاص غير هياب ولا وجل ، ولذا كان الجميع يهابونه ويخشون أن يذكرهم الشيخ في دروسه. وكان جهوري الصوت فصيح اللسان حسن التقرير ،