حتى إن التحارير التي كانت تأتيه من أهله كان يتركها على الرف حتى انتهى من التحصيل وعول على الرجوع ، وحينئذ فتحها فوجد أن فلانا من أقاربه قد تزوج وفلانا قد مات إلى غير ذلك ، وقصد بذلك أن لا يشغله عن العلم شاغل آخر.
وعاب عليه الطلاب في الأزهر الانزواء وعدم الاختلاط وعدم الخروج ، فما زالوا به حتى خرج معهم مرة ، فخرج ومعه كتابه إلى بعض رياض مصر ، فترك رفقاءه وهم ساهون لاهون في بعض الألعاب وانفرد هناك عن إخوانه وأخذ في مطالعة درسه وحمد الله الذي أشغلهم عنه. وفي اليوم الثاني لما حضر هو ورفقاؤه بين يدي أستاذهم تبين تقصيرهم لعدم مطالعتهم ، ولما علم الأستاذ ذلك شكره كثيرا وأنحى باللائمة على الباقين.
ولما عول على الرجوع إلى بلدته طلب من مشايخه أن يأذنوا له بالسفر وأن يجيزوه بالتدريس فيها ، فأذنوا له وأجازوه بذلك. ومما يحكى عنه أنه لما عزم على الرجوع ترك الحضور ذلك اليوم فقط وأخذ في تهيئة حوائجه وكتبه ، فرآه الشيخ إبراهيم البيجوري وهو منفرد في زاوية من زوايا الأزهر ، فقال لمن حضره : إن هذا الرجل الذي ترونه بهيئة المساكين والله لم يحصّل طالب علم في مصر بقدر ما حصّل ، وسيكون له شأن عظيم.
عوده إلى حلب :
عاد إلى حلب سنة ١٢٤٣ بعد أن جاور في الأزهر ثلاث عشرة سنة ، وكان أخوه الشيخ محمد هو المتصدر فيها وإليه المرجع في فقه الشافعية ، لذا لم يشتهر أمره في التدريس ، فأخذ في التأليف فألف في كل فن ، وبقي على ذلك إلى سنة ١٢٥٠ ، ففيها توفي أخوه فتولى وظائفه في دروس الجامع الكبير وفي المدرسة الرحيمية والعثمانية والقرناصية والصروي وفي إفتاء الشافعية ، وجاءه المنشور في ذلك (١) ، وكانت الشهباء وقتئذ في حاجة إلى مثله
__________________
(١) أقول : قد اطلعت على هذا المنشور عند حفيد ابن أخيه صديقنا الشيخ إبراهيم الترمانيني ، وفيه ما ترجمته : قدوة العلماء الكرام نخبة الفضلاء الفخام ، ترمانيني زاده الشيخ أحمد أفندي المكرم. بعد السلام ننهي إليكم أنه بناء على ارتحال أخيكم الشيخ محمد الترمانيني مفتي الشافعية من دار الفناء إلى دار البقاء فقد انجلت وتعطلت بذلك خدمة الفتوى الجليلة ، وبناء على لزوم تعيين مفت للشافعية بدلا عنه وإعطاء إذن له بالإفتاء ، وبما أنك شافعي المذهب وعلمك وفضلك وكمال وقوفك على الفقه الشافعي محقق فقد انتخب جنابك من قبل الشرع لإفتاء الشافعية وأحيل ذلك لحضرتكم وأعطي لكم إذن بالإفتاء ، فعليه أرسلنا لطرفكم هذه المراسلة المحتوية على الإذن والرخصة بالإفتاء ، فيلزم أن تعلموا بموجبها والسلام. حرر في صفر سنة ١٢٥١ (الختم) اللهم سهل أمور السيد محمد عزيز.