لا قد اكتفينا ، ولم يأكل سوى ذلك. ولم نسمع أنه أجاب دعوة أحد من الكبراء غير هذه ، ولعله أجاب دعوة جودت باشا لأنه من العلماء كما ذكرنا ذلك في الكلام على ولايته.
وكانت له الهيبة العظيمة في القلوب بحيث إن كل من رآه من الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم يهابه بحيث إنه إذا كان مارا في الطريق يقف له المارون هيبة. وما كان يسلم في طريقه على أحد من الناس ، بل كان مشتغلا بقراءة الفاتحة ، هذا كله مع كمال التواضع والحلم والأناة ، حتى إنه قد اشتهر عنه أنه كان يخبز خبزه بيده ويحمله على كتفه وهو قد جاوز الثمانين ، ويأتي بجميع لوازمه البيتية يحملها بنفسه ، واجتهد كثير من خاصة أهل بلدته وعامتهم أن يساعدوه في حمل شيء منها فكان يأبى.
وكان مع ما امتاز به من العلم والعمل على مقتضى الشريعة الإسلامية قد اشتهر عنه نصرة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يغلظ القول في رجال الدولة وغيرهم من الأمراء عندما يرى منهم أو يسمعه عنهم ما يخالف الشرع والحق ، لا يبالي بهم ولا تأخذه في الله لومة لائم.
وكان ديدنه التأليف بين الناس وجمع القلوب إلى بعضها بعيدا عن كل فتنة ، لا يدع مجالا لمن رام ذلك ، عرف هذا الخلق منه عامة الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم فعكفت القلوب جميعها على محبته وأجمعوا على مدحه والثناء عليه.
وقد علم أهله وجيرانه أنه كان ينام نصف الليل أو ثلثيه بدون اضطجاع ولا فراش ، بل ينام على جلد محتبيا فلا يعلم أهل بيته أهو نائم أو مستيقظ ، ثم يقوم إلى الصلاة وقراءة الأوراد والأذكار بصوت متوسط بحيث يؤنس المستيقظ ولا يوقظ النائم. وأجمع أهل عصره أنه كان ورده في النهار قراءة الفاتحة يقرؤها دائما في قعوده وقيامه وفي طريقه ويقول : إنها مفتاح الخير ومغلاق الشر وفيها النجاة.
وبلغ من احتياطه وتباعده عن مواطن الشبهات أنه كان لبناته بعض عقارات قد اشترينها من مالهن الموروث عن والدتهن ، فكان حينما يقبض بدل الإيجار لهن يضع ما يخص كل واحدة منهن على حدة خشية اختلاط المال من غير إذنهن. وحدثت مرة أنه قد اختلط معه البدل المذكور بماله فجمعهن وطلب منهن المسامحة وأنه لم يكن ذلك منه إلا سهوا.