قصد السمعة أو طلبا لدنيا ، فقد كان والحمد لله في سعة من العيش غنيا بغنى أبيه ، غير أنه زهد في هذه الدنيا وزخارفها وعلم أنها دار ممر لا دار مقر ، وأن الإنسان لم يخلق سدى بل خلق ليعبد الله تعالى ويهذب هذه النفس ويصفيها من الكدورات لتلتحق بالملأ الأعلى وتدخل في عداد النفوس التي خاطبها تعالى بقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)(١) ولذا أعرض عنها وأكب على العبادة وقراءة الأوراد وملازمة الذكر والمراقبة ، واجتهد في ذلك غاية الاجتهاد. وكان لا يفتر عن التهجد في الليل وصوم يوم الاثنين والخميس وغيرهما من الأيام المباركة. ومع ذلك لم يكن ليترك نصيبه من الدنيا ، بل كان بعد انتهائه من حضور دروسه يتوجه إلى مخزن والده الكائن في خان العلبيّة ويحرر له حساباته وتحاريره التي يرسلها إلى البلدان ، وينوب عنه في البيع والشراء في أوقات سفره ، إلا أنه لم يكن متهافتا على الدنيا متكالبا عليها كما هو شأن أبناء هذا الزمان ، بل كان مجملا في الطلب ، صادق اللهجة ، ناصحا في بيعه وشرائه ، لا يعرف الكذب ولا التغرير ، ولا يحلف لا صادقا ولا كاذبا.
وفي سنة ١٣٠٥ توجه مع أهله وولديه وبنت له إلى مكة ، أرسله سيدي الوالد في تجارة إليها وأرسل معه ما يروج هناك من بضائع هذه البلاد. وقد كان حج قبل ذلك مرتين أو ثلاثا ، ولم تكن غايته الربح بل الحج وزيارة تلك الأماكن المقدسة ، ولما وصل إلى مكة ازداد هناك زهدا في هذه الحياة وأقبل على العبادة مزيد الإقبال ، فكان يدخل إلى الحرم المكي من الساعة الحادية عشرة ويبقى فيه إلى الساعة الثالثة وهو بين طواف وصلاة ومراقبة ومشاهدة للكعبة المشرفة وذكر لله تعالى خفية ، ثم يعود إلى البيت فينام إلى الساعة الثامنة ، ثم ينهض فيعود إلى الحرم فيبقى فيه على هذه الحالة إلى أن يصلي الضحى ، ثم يخرج إلى حانوته ويأخذ في البيع والشراء على الحالة التي قدمناها.
وكان كثير الاجتماع بالشيخ حسن عرب وأخيه الشيخ أحمد والشيخ حسب الله الهندي ، وهم من علماء مكة الفضلاء ، ويتذاكر معهم في كثير من المسائل العلمية.
وبقي مجاورا في مكة على هذه الحالة إلى سنة ١٣٠٧ ، ففيها توجهت مع سيدي الوالد إلى مكة ، فوصلناها في الرابع من ذي الحجة. وفي الثامن منه خرجنا جميعا إلى عرفات
__________________
(١) الفجر : ٢٧.