كان سيدي الوالد مربوع القامة ، أسمر اللون سمرة قليلة ، مستدير الوجه ، متوسط اللحية ، شاب معظمها قبيل وفاته ، كثير التبسم دائم البشر حسن الملاقاة واسع الصدر لقاصده ، مبذول الجاه لا يألو جهدا في قضاء حوائج الناس ، رقيق القلب ، كثير الصدقات ، يقرض الحجاج المنقطعين في مكة ما يوصلهم إلى حلب ويستأجر لهم الجمال ويشيعهم إلى ظاهر مكة ، وله في ذلك حكايات يتحدث بها عارفوه.
وكان لا تزعزعه الكوارث ولا تزعجه المصائب ، بل يتلقاها بقلب متين وعزم شديد ، لا يفرح مهما ربح في تجارته ولا تلقاه مهموما أو محزونا مهما خسر فيها ، هو هو في الحالتين ، وهذا الخلق قليل في الناس.
وكان ناصحا في بيعه وشرائه ، مستقيما في أخذه وعطائه ، لا يروج سلعته بيمين أو قسم بشيء.
وكان يحفظ كثيرا من فروع الفقه خصوصا أحكام البيع والشراء الصحيح منها من الفاسد ، ولم يكن وحده في هذه الصفة بل كان على ذلك معظم تجار المسلمين لا يتعاطى أحدهم التجارة إلا بعد الوقوف على جانب من علم الفقه ، بخلاف تجار هذا الزمان الذي قل فيهم من يعلم ذلك.
وكان ماهرا في صنعة بصم المنديل التي كانت قبل خمسين سنة واسعة في حلب ، يتعاطاها نحو ستين شخصا يشغل كل واحد منهم فيها قدر عشرين شخصا ما بين صانع وأجير ، وتشغل هذه الصنعة قدر عشر مصابغ للنيل كل مصبغة فيها نحو عشر من الصناع ، وكان هذا المنديل يباع في بلاد القارص وأرزن الروم وأسعرد وآذنة وطرسوس وملاطية وغيرها من بلاد الأناضول وفي بغداد والموصل ومصر والحجاز والشام وطرابلس وحمص وحماة وحلب ، لكل ناحية أشكال مخصوصة يضعه فلاحو هذه البلاد على رؤوسهم رجالا ونساء. ولما صارت الحرب الروسية العثمانية سنة ١٢٩٠ واستولت روسية على مقاطعة القارص بطل ما كان يباع إليها ، لأن الحكومة الروسية وضعت على ما يدخلها إلى بلادها مكسا ثمانين في المئة ، وكان مبلغا عظيما يشغّل عدة مطابع ، وما يباع في باقي البلاد أخذ في التدني بمزاحمة البضائع الإفرنجية ، وكلما تدنت وقل رواجها يقل من عدد هؤلاء المعلمين ، بعضهم افتقر وبعضهم تعاطى صنعة غيرها. وكنت مع اشتغالي بخدمة العلم