وبين جميل باشا. وبعد أربعة أيام تجلت له الحقيقة وظهرت ظهور الشمس في رابعة النهار ، عندئذ تحول إلى منزل المترجم. وبعد أيام عاد إلى الآستانة ، فلم تمض أيام إلا وعزل جميل باشا من منصبه ، وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثالث في ترجمة جميل باشا (١) ، وبقي المترجم سنين كثيرة عضوا في مجلس الإدارة ، فكان يوالي من الولاة من كان واقفا مع الحق رؤوفا بالأهلين ، ومن كان على خلاف ذلك لا يألو جهدا في مقاومته ومصارحته بالحق ، حتى إن رائف باشا لما تلقى أمرا بتحويله من حلب وحضوره إلى الآستانة سئل المترجم عن خطيئاته أثناء ولايته في حلب فلم يتأخر عن بيانها له ، وكان من جملتها مدّ يد معونته إلى دائرة الريجي التي أضرت بالأهلين أضرارا فاحشة وفتكت بهم وخصوصا في قضية بني اليكن حينما أخرج من بيتهم رزم التتن وما لحقهم بذلك من الضرر والإهانة.
وكان لا يتجدد الانتخاب لأعضاء مجلس الإدارة إلا وينتخب عضوا له ، وطالت مدته فيه ، بل كان لا تتشكل لجنة إلا ويعين رئيسا لها أو عضوا فيها ، وذلك لما عرف فيه من الاستقامة والدراية.
وفي سنة ١٣١٧ عمر دارا عظيمة في محلة الفرافرة تجاه القلعة من الجهة الشمالية بينهما الجادة ، وبعيد وفاته في التاريخ الآتي قسمت إلى دارين.
وفي ٦ صفر من سنة ١٣٣٢ عين عضوا لمجلس الأعيان المؤلف في الآستانة من أعيان البلاد العثمانية ، فذهب إليها غير راغب في ذلك نظرا لشيخوخته وعلمه بعدم انطباق أفكار معظم المعينين فيه على أفكاره. وكان زميله في هذا المجلس رشيد عاكف باشا ورضا باشا وأمثالهما ، فكانوا يثقون به ويعتمدون على آرائه وصائب فكره. وبقي في هذا المنصب سنتين. وكانت قد وقعت الحرب العامة فاستأذن وكرّ راجعا إلى وطنه ، فلازم بيته الذي عمره حديثا لا يخرج منه إلا قليلا ، إلى أن توفي رابع عشر جمادى الأولى سنة ١٣٣٨ ، ودفن في تربة الصالحين شرقي مقام إبراهيم.
وكان رحمهالله تعالى نحيف الجسم مربوع القامة أسمر اللون ذا لحية خفيفة كما تراه في رسمه. وتوفيت زوجته وهو في سن الخامسة والثلاثين ، وبقي بعد وفاتها أربع سنوات يكاد لا يخرج من بيته حدادا عليها ، ولم يتزوج بعد ذلك.
__________________
(١) وذلك في الصحيفة (٣٧٢).