وفي أثناء وجوده في مكة زار الشريف حسينا فلقي منه كذلك كمال الإقبال. وبعد أداء مناسك الحج عاد في الخامس عشر من شهر ذي الحجة إلى جدة ، ولما كان في نحو منتصف الطرق لفحته الرمضاء فتوعك جسمه وانحلت قواه وألمت به حمّى شديدة تسمى في تلك البلاد الحمّى الخطّافة ، فوصل إلى جدة وقد ازداد به المرض ، فاستدعي له الطبيب فلم ينجع فيه دواء ، وفاضت روحه الكريمة ليلة السادس عشر من شهر ذي الحجة ، ودفن من الغد في تربة هناك. ولما جاء نبأ نعيه إلى حلب أسف الناس عليه أسفا لا مزيد عليه ، وبكى الكثير لأفول نيّر شمسه الذي كان ساطعا في سماء الشهباء وغيبوبته تحت أطباق الثرى. ولا ريب أن المصاب به كان جللا ، والخسارة بفقد ذاك العلم كانت عظيمة ، فقد كان حسنة من حسنات هذه الديار ، ودرة يتيمة في تاج هذا العصر.
وكان رحمهالله حسن الخلق محمود السيرة صافي القلب شريف النفس سامي المبدأ ناصحا في دينه ، لا يجد الغش مسلكا إلى قلبه ولا الخداع موطنا في فؤاده ، رقيق الطبع حسن العشرة متأنيا في حركاته ساكنا مع أصالة رأي. وبالجملة فهو جدير بقول من قال :
له صحائف أخلاق مهذبة |
|
منها الحجا والعلا والفضل ينتسخ |
وكان له في علم التوحيد والتفسير والأصول والفقه والمعاني والبيان اليد الطولى ، مع حسن التقرير والتفهيم. أجمع من قرأ عليه أن تقريره كان يدخل إلى الآذان بلا استئذان. وكان ذا همة عالية في دروسه ، لا تجده إلا في مطالعة أو إلقاء لها ، لا يعرف الكلل ولا الملل في ذلك.
وقد كان لي الصديق المخلص والخل الوفي ، يفضي كل واحد منا إلى الآخر بمكنونات قلبه ويطلعه على مخزونات سره. ولما فتحت المدرسة الخسروية وعينت لدرس التاريخ وغيره فيها كنت أذاكره في شؤون المدرسة وما يعود بالصلاح عليها ، وما أسرع اتفاقنا على ما يلزم عمله ، ولعلنا لم نختلف يوما قط ، وكأن الرأيين خرجا من قلب واحد. وكنا بعد الاتفاق نسعى في إبراز ذلك إلى حيز العمل.
وكان عظيم المحبة لرقي اللغة العربية ونشرها ، وترقي اللغة عنوان رقي الأمة ، ولذا لم يقصر سعيه في تعليمها في المدارس الدينية ، بل كان يسعى في نشرها في دار المعلمات أيضا.