أفضليته لأن المقام هنالك لسرد من أخذ عليهم الميثاق ، وأما آية سورة الشورى فإنّما أوردت في مقام وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنّ الله قال : شرع لكم الدّين الأصيل الذي بعث به نوحا في العهد القديم وبعث به محمدا صلىاللهعليهوسلم في العهد الحديث ، وبعث به من توسط بينهما.
فقوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) هو ما سبق نزوله قبل هذه الآية من القرآن بما فيه من أحكام ، فعطفه على ما وصّى به نوحا لما بينه وبين ما وصّى به نوحا من المغايرة بزيادة التفصيل والتفريع. وذكره عقب ما وصّى به نوحا للنكتة التي تقدمت.
وفي قوله تعالى : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وقوله : (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ) ، جيء بالموصول (ما) ، وفي قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) جيء بالموصول (الَّذِي) ، وقد يظهر في بادئ الرأي أنه مجرّد تفنّن بتجنب تكرير الكلمة ثلاث مرات متواليات ، وذلك كاف في هذا التخالف. وليس يبعد عندي أن يكون هذا الاختلاف لغرض معنويّ ، وأنه فرق دقيق في استعمال الكلام البليغ وهو أن (الَّذِي) وأخواته هي الأصل في الموصولات فهي موضوعة من أصل الوضع للدلالة على من يعيّن بحالة معروفة هي مضمون الصلة ، ف (الَّذِي) يدلّ على معروف عند المخاطب بصلته.
وأمّا (ما) الموصولة فأصلها اسم عام نكرة مبهمة محتاجة إلى صفة نحو قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء : ٥٨] عند الزمخشري وجماعة إذ قدّروه : نعم شيئا يعظكم به. فما نكرة تمييز ل (نعم) وجملة (يَعِظُكُمْ بِهِ) صفة لتلك النكرة. وقال سيبويه في قوله تعالى : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣] المراد : هذا شيء لدي عتيد ، وأنشدوا :
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن |
|
لشيء بعيد نفعه الدّهر ساعيا |
أي لشيء نافع ، فقد جاءت صفتها اسما مفردا بقرينة مقابلته بقوله : لشيء بعيد نفعه ، ثم يعرض لما التعريف بكثرة استعمالها نكرة موصوفة بجملة فتعرفت بصفتها وأشبهت اسم الموصول في ملازمة الجملة بعدها ، ولذلك كثر استعمال ما موصولة في غير العقلاء ، فيكون إيثار (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) و (ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) بحرف (ما) لمناسبة أنّها شرائع بعد العهد بها فلم تكن معهودة عند المخاطبين إلا إجمالا فكانت نكرات لا تتميز إلا بصفاتها ، وأما إيثار الموحى به إلى النبي صلىاللهعليهوسلم باسم (الَّذِي) فلأنه شرع متداول فيهم معروف عندهم. فالتقدير : شرع لكم شيئا وصّى به نوحا وشيئا