وترك ما عداه ، إذا كان قد بيّن في موضع آخر ، وقد بيّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات.
وجوابه : إنّما يترك القسم الذي يجري مجرى النّادر ، ومعلوم أنّ الفسّاق أكثر من أهل الطّاعة ، فكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) فإنّما ترك ذكر القسم الرابع ، لأنّ أقسام دواب الأرض كثيرة ، فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب ، بخلاف مسألتنا ، فإنه ليس هنا إلّا القسم الثّالث ، وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنّه لا مؤمن ولا كافر ، فظهر الفرق.
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) الآية.
لمّا ذكر الدلائل الدّالة على الإلهيّة ، وهي التّمسّك بخلق السموات والأرض ، ثم فرع عليها صحّة القول بالحشر والنشر ، عاد إلى ذكر الدّلائل الدّالة على الإلهيّة ، وهي التمسّك بأحوال الشمس والقمر ، وهو إشارة إلى توكيد الدّليل على الحشر والنشر ؛ لأنّه ـ تعالى ـ أثبت القول بالحشر والنشر بناء على أنّه لا بد من إيصال الثّواب إلى أهل الطّاعة ، والعقاب إلى الكفّار ، وأنّه يجب تمييز المحسن عن المسيء.
ثم ذكر في هذه الآية أنّه جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل ، ليتوصّل المكلّف بذلك إلى معرفة السنين والحساب ، فيرتّب مهمات معاشه وزراعته وحراثته ، ويعدّ مهمات الشّتاء والصّيف ، فكأنّه تعالى يقول : تمييز المحسن عن المسيء ، أوجب وأولى من تعليم أحوال السّنين والشّهور ، فلمّا اقتضت الحكمة بخلق الشمس والقمر لهذا المهمّ الذي لا نفع له فبأن تقتضي الحكمة والرّحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت ، مع أنّه يقتضي النفع الأبديّ والسعادة السّرمديّة كان أولى ، فلمّا كان الاستدلال بأحوال الشّمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية ممّا يدلّ على التّوحيد من وجه ، وعلى صحّة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه ، لا جرم ذكر الله تعالى هذا الدّليل بعد ذكر الدّليل على صحّة المعاد.
قوله : «ضياء» : إمّا مفعول ثان على أنّ الجعل للتصيير ، وإمّا حال على أنّه بمعنى الإنشاء ، والجمهور على «ضياء» بصريح الياء قبل الألف ، وأصلها واو ؛ لأنّه من الضّوء. وقرأ قنبل (١) عن ابن كثير هنا وفي الأنبياء والقصص «ضئاء» بقلب الياء همزة ، فتصير
__________________
(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٣) ، الحجة ٤ / ٢٥٨ ، حجة القراءات ص (٣٢٨) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، إتحاف ٢ / ١٠٤.