أكد هذا الدليل بقوله : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي : إنه لمّا قدر على الإحياء في المرّة الأولى ، فإذا أماته ، وجب أن يبقى قادرا على إحيائه ثانيا ؛ فظهر أمره لنبيه بأن يقول : (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ).
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٥٨)
قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ) الآية.
اعلم : أنّه ـ تعالى ـ لمّا بيّن أنّ الرسول حقّ وصدق بظهور المعجزات على يديه ، في قوله: (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٣٧] وصف القرآن هنا بصفات أربع :
أولها : كونه موعظة.
وثانيها : كوه شفاء لما في الصّدور.
وثالثها : كونه هدى.
ورابعها : كونه رحمة للعالمين.
قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) يجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية ، فتتعلّق حينئذ ب «جاءتكم» ، وابتداء الغاية مجاز ، ويجوز أن تكون للتّبعيض ، فتتعلق بمحذوف على أنّها صفة ل «موعظة» أي : موعظة كائنة من مواعظ ربّكم.
وقوله : (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) من باب ما عطف فيه الصّفات بعضها على بعض ، أي : قد جاءتكم موعظة جامعة لهذه الأشياء كلّها ، و «شفاء» في الأصل مصدر جعل وصفا مبالغة ، أو هو اسم لما يشفى به ، أي : يداوى ، فهو كالدّواء لما يداوى ، و (لِما فِي الصُّدُورِ) يجوز أن يكون صفة ل «شفاء» فيتعلق بمحذوف ، وأن تكون اللام زائدة في المفعول ؛ لأنّ العامل فرع إذا قلنا بأنّه مصدر.
وقوله : «للمؤمنين» محتمل لهذين الوجهين ، وهو من التّنازع ؛ لأنّ كلّا من الهدى والرحمة يطلبه.
فصل
أمّا كون القرآن موعظة ؛ فلاشتماله على المواعظ والقصص ، وكونه شفاء ، أي : دواء ، لجهل ما في الصّدور ، أي : شفاء لعمى القلوب ، والصّدور موضع القلب ، وهو أعز موضع في الإنسان لجوار القلب ، قال ـ تعالى ـ : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وكونه هدى ، أي : من الضّلالة ، (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ،) والرّحمة : هي النعمة على المحتاج ؛ فإنّه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا ، فإنّه لا يقال رحمة وإن كان ذلك نعمة ؛ فإنّه لم يصنعها إلى المحتاج.