فصل
قال المفسرون : حمل لكلّ واحد منهم بعيرا ، أكرمهم بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه ؛ فذلك قوله تعالى : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ولم يقل بأخيكم بالإضافة ؛ مبالغة في عدم تعرفه بهم.
ولذلك فرّقوا بين مررت بغلامك ، وبغلام لك.
فإنّ الأول يقتضي عرفانك بالغلام ، وأنّ بينك وبين مخاطبك نوع عهد.
والثاني لا يقتضي ذلك ، وقد تخبر عن المعرفة إخبار النكرة ، فتقول : قال رجل كذا ، وأنت تعرفه ؛ لصدق إطلاق النكرة على المعرفة.
واعلم أنّه لا بدّ من كلام سابق يكون سببا لعرفان يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [وطلبه ل](١) أخيهم ، وذكروا فيه وجوها :
الأول ـ وهو أحسنها ـ : أنّ عادة يوسف ـ عليهالسلام ـ مع الكلّ أن يعطي كل واحد حمل بعير ، وكان إخوته عشرة ؛ فأعطاهم عشرة أحمال ؛ فقالوا : إنّ لنا أبا شيخا كبيرا ، وأخا آخر بقي معه ، وذكروا أنّ أباهم ـ لأجل كبر سنّه ، وشدّة حزنه ـ لم يحضر ، وأنّ أخاهم بقي في خدمة أبيه ، فلما ذكروا ذلك قال يوسف : هذا يدلّ على أنّ حبّ أبيكم له أزيد من حبّه لكم ، وهذا شيء عجيب! لأنكم مع جمالكم ، وعقلكم ، وأدبكم ، إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم ، دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل ، والفضل ، والأدب ، فائتوني به حتى أراه.
الثاني : لعلّهم لما ذكروا أباهم ، قال يوسف : فلم تركتموه وحيدا فريدا؟.
قالوا ما تركناه وحيدا (٢) بل بقي عنده واحد ، فقال لهم : ولم استخلصه لنفسه؟ لأجل نقص في جسده؟ فقالوا : لا بل لأجل أنه يحبّه أكثر من محبته (٣) لسائر الأولاد ، فقال : لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم ، ثم إنه خصّه بمزيد المحبة ، وجب أن يكون زائدا عليكم في الفضل ، والكمال مع أنّي أراكم فضلاء علماء حكماء ؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ ؛ فائتوني به.
الثالث : قال المفسرون : ولما دخلوا عليه وكلّموه بالعبرانيّة ، قال لهم : من أنتم؟ وما أمركم؟ فإني أنكرت شأنكم؟.
قالوا : قوم من أرض الشام رعاة ، أصابنا الجهد ؛ فجئنا نمتار ، فقال : لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي ، قالوا : معاذ الله! ما نحن بجواسيس ؛ إنما نحن إخوة بنو أب
__________________
(١) في ب : عن حال.
(٢) سقط من : ب.
(٣) في ب : على.