قوله : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني من قبل مشركي مكة والمكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي : عند الله جزاء مكرهم.
قال الواحدي ـ رحمهالله ـ : يعني أن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه ـ تعالى ـ هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضر إلا بإذنه ، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم وأمان له من مكرهم ، فكأنه قيل : إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله ـ تعالى ـ وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله.
ثم قال ـ جل ذكره ـ (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ، أي : أن اكتساب العباد معلوم لله ـ تعالى ـ وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك ، فكان الكل من الله ـ تعالى ـ.
قالت المعتزلة (١) : الآية الأولى إن دلت على قولكم ، فقوله (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) دليل على قولنا ، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة ، ولو كان حدوث الفعل [بخلق](٢) الله ـ تعالى ـ لم تكن لقدرة العبد فيه أثر ، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب.
والجواب : أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد.
ثم إنه ـ تعالى ـ أكد ذلك التهديد فقال ـ جل ذكره ـ (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) قرأ ابن عامر والكوفيون «الكفّار» جمع تكسير والباقون : «الكافر» (٣) بالإفراد ذهابا إلى الجنس.
وقرأ عبد الله (٤) «الكافرون» جمع سلامة.
قال الزمخشري (٥) : «قرىء : الكفّار والكافرون والذين (٦) كفروا ، والكافر».
قال المفسرون : والمراد بالكافر : الجنس ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢].
وقال عطاء رحمهالله تعالى : يريد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون (٧).
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد أبا (٨) جهل ، والأول هو الصواب.
قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولا من عند الله احتج عليهم بأمرين :
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٥٥.
(٢) في أ : بقدرة.
(٣) ينظر : الحجة ٥ / ٢١ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٢ وحجة القراءات ٣٧٥ والإتحاف ٢ / ١٦٣ والمحرر الوجيز ٣ / ٣١٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٠ والدر المصون ٤ / ٢٤٧.
(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣١٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٠ والدر المصون ٤ / ٢٤٧.
(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٥.
(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٥.
(٧) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٥٥).
(٨) ينظر : المصدر السابق.