وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيّ صلىاللهعليهوسلم فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية ، كم هي؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه ويبين هذه الأحكام ؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة.
الوجه الثاني في أنّ الإقرار بوجود الصّانع بديهي : وهو أنّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة ، وتركيبات لطيفة موافقة للحكمة ، والمصلحة تستحيل إلّا من نقاش عالم ، وبان حكيم ، ومعلوم أنّ آثار الحكمة في العالم العلوي ، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة ، فلمّا شهدت الفطرة الأصليّة بافتقار النّقش إلى النّقاش ، والبناء إلى الباني ، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى.
الوجه الثالث : أنّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة ، فإنه بأصل فطرته ، وخلقته يتضرّع إلى من يخلصه منها ، وما ذاك إلّا شهادة فطرته بالافتقار إلى الصّانع القادر المدبر.
الرابع : أن الموجود إمّا أن يكون غنيّا عن المؤثر ، أو لا يكون ، فإن كان غنيا عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته ؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلّا الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره ، وإن لم يكن غنيّا عن المؤثر فهو محتاج ، والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه ، وذلك هو الصّانع المختار.
الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجود الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه ، أما كون الإقرار بوجود الصّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجودا فلا ضرر في الإقرار بوجوده ، وإن كان موجودا ففي إنكاره أعظم المضار.
وأمّا كون الإقرار بكونه فاعلا مختارا أحوط ، فلأنه إن لم يكن موجودا فلا خير في الإقرار بكونه مختارا.
أمّا لو كان موجودا ففي إنكار كونه مختارا أعظم المضار.
وأمّا كون الإقرار بكونه مكلفا لعباده أحوط ، فلأنه لو لم يكلف أحدا من عبيده شيئا فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار.
وأمّا كون الإقرار [بوجود](١) المعاد أحوط ؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد ؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية ، وهي منقضية فانية ، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار ، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه ، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النّفس بقدر الإمكان ، والله أعلم.
__________________
(١) في ب : بدار.