وقد يصدق هذا الكلام بخصوصنا أحياناً ، فنحن نستطيع أن نلقي بأنفسنا في النار ، أو نضع جذوة من النار في أفواهنا ، أو عيوننا ، ولسنا بعاجزين عن القيام بهذا الفعل ، لكننا لانقوم به أبداً ، لأنّ عقولنا لا تسمح لنا بمثل ذلك ، فهذا مستحيل وقوعي لا ذاتي.
٤ ـ اعتقد بعض الفلاسفة : بأنّ الذات الإلهيّة المقدّسة ، ولكونها واحدة من كل ناحية ولا تقبل الكثرة والتعدُّد ، فلا يصدر منها سوى مخلوق مجرّد واحد رفيع جدّاً سموه «العقل الأول» ، واستندوا في معتقدهم هذا على القاعدة المعروفة التي تقول «الواحِدُ لا يصدُر منه إلّا الواحد».
لذا فهم يقولون : إنّ المخلوق الإلهي الوحيد هو ذلك الموجود المجرّد الأول ، لذا ومن حيث إنّ «العقل الأول» ذو جهات متعددة (له وجود من جهة ، وماهيّة من جهةٍ اخرى ، ذاتاً «ممكن الوجود» من جهة ، و «واجب الوجود» بالعرض من جهة اخرى) ، فبسبب جهات الكثرة هذه ، نشأت منه معلولات مختلفة ، لذا فمنشأ الكثرة في عالم الوجود هي الكثرة الموجودة في العقل الأول والمراتب البعدية حاصلة منه.
وقد اعتمدوا لإثبات القاعدة أعلاه على مسألة «السنخيّة بين العلّة والمعلول» ، وقالوا : لولا ضرورة السنخيّة بين العلّة والمعلول ، لأمكن أن يكون كل موجودٍ علّةً لأي معلول ، لكن لزوم السنخيّة يحول دون هذا الأمر ، وعندما نقر بوجوب السنخيّة بين العلّة والمعلول ، يجب علينا أن نقر بأنّ العلّة الواحدة من كل ناحية تستلزم أن لا يكون لها أكثر من معلولٍ واحد. (تأمّل جيّداً) (١).
ويُمكن الرد على هؤلاء بعّدة طرق :
أ) على فرض صحة هذا الاستدلال ، فإنّه لا يُفهم منه محدوديّة القدرة الإلهيّة ، بل هو على كُلّ شيء قدير ، لكن قدرته بالنسبة «للعقل الأول» بدون واسطة ، وبالنسبة للموجودات الاخرى مع وجود واسطة ، وكلاهما يعتبران في حدود المقدور ، فما الفرق بين أن يُباشر الإنسان عملاً معيناً بيده ، أو بوسيلة وأداة معينة من صنعه؟ فالفعل فعله في كلتا الحالتين.
__________________
(١) تلخيص من نهاية الحكمة ، ص ١٦٦.