أمّا الآية الثامنة فعلى خلاف الآيات السابقة ، التي كانت تتحدث عن نفي الظلم ، أكّدت إثبات القِسط والعدل كسُنّة دائميّة وأبديّة ، قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ).
والجدير بالإنتباه هو كون العدالة الإلهيّة من أحد شروط (الشهادة) ، وعدالته شرطٌ لمنع عباده عن أي انحرافٍ عن طريق الحق ، وتمّ التأكيد هنا على عدالة الله لتكميل شهادته ، وهذه العدالة تثبت بوضوح بنظرةٍ عميقةٍ واحدة إلى عالم الوجود ، لأننا نرى كُلّ شيءٍ في محلّه ، ونشاهد منتهى الدقة والإستحكام في النظام الموجود في الوجود ، وإذا لاحظنا وجود بعض العيوب في بعض حوادث وأشياء العالم ، فإنّها تتضح لنا شيئاً فشيئاً بزيادة التدقيق والتطور العلمي ، وإن بقيت حالات نادرة في قيد الإبهام ، فإننا وبأخذنا بنظر الاعتبار الحوادث المكتشَفة في العالَم ، سنعلم بأنّ سبب بقاء إبهامها هو جهلنا وقلّة علمنا.
ومن جهةٍ اخرى ، إنّ عدالة الله دليل أيضاً على وحدانيته ، لأنّه لو كان هنالك خالقٌ وحاكمٌ في الوجود سواه لأدّى إلى حدوث اختلاف في التدبير والفساد بالنتيجة ، وعليه فإنّ النظم الموجودة ، ووحدة التدبير خيرُ دليلٍ على وحدانيتة.
وبهذا فإنّ وحدانيته تدل على عدله ، وعدله يدل على وحدانيته ، وهذا مطلب ظريف يُستحصَلُ من الآية أعلاه (١).
والظريف (هو استدلال الزمخشري في الكشاف بهذه الآية على نفي الجبر ، لأنّ الجبر يتنافى مع عدالة الله).
وهذا مطلب واضح سنتطرق إليه في البحوث القادمة إن شاء الله ، فأي ظُلمٍ أكبر من أن يجبر شخصٌ أحداً على فعلٍ معين ثم يؤاخذه عليه ويعاقبه؟
لكن الفخر الرازي ، وانطلاقاً من تعصُّبه الخاص حول هذه المسألة ، تهجمّ بشّدة على صاحب الكشّاف ووصفه عدّة مرّات بالمسكين أو بغير المحيط بجميع رموز العلم ، وتوسّل بالإشكال الشهير المعروف (بعلم الله) في مسألة الجبر ، وهو إن لم يعصِ المذنبون ولم
__________________
(١) تفسير الميزان ، ج ٣ ، ص ١١٩ (مع شيء من الأقتباس).