وكذا لا يُمكن أن يتساوى تركيب أعصاب جرّاح للقلب مع اعصاب شاعرٍ دقيق النظر ، أو عالمٍ في الرياضيات مع مهندسٍ زراعي ، أو كلاهما مع عامل صناعاتٍ ثقيلة ، وهؤلاء الثلاثة مع جندي أو ضابطٍ عسكري ، وهؤلاء الأربعة مع قاضٍ مُعيَّنْ ، لأنّ لكل واحدٍ منهم وظيفته الخاصّة في المجتمع وله ذوق واستعداد وبناء جسماني روحاني خاص مناسب لذلك.
وهذا المطلب بدرجة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى زيادة في التوضيح ، وبالأساس أنّ من إحدى دلائل عظمة الله هي هذا التقسيم الدقيق للأذواق والاستعدادت التي تُشكّل جميعها مجموعة متعادلة ومتوازنة كلٌّ في محله الخاص!
وخلاصة الكلام هي أنّ البشر ليس كالأواني المتشابهة التي تُصنع في معملٍ واحد ، ولجميعها فائدة واحدة ، فلو كان كذلك لما استطاعوا العيش مع بعضهم حتى يوماً واحداً ، فالمهم في حياة البشر وجميع عالم الخلق هو العدالة لا المساواة ، ووضع كل شيءٍ في محلّه لا التشابه.
وللقرآن الكريم إشارات غنيّة في هذا المجال ، حيث قال في موضعٍ : (وَرَفَعنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيّاً). (الزخرف / ٣٢)
«سُخريّاً» : مشتقة من مادّة (تسْخير) ، ومفهوم الآية هو : إنّ تفاوت درجات الناس تؤدّي إلى تسخير بعضهم بعضاً ، أو تدفع بهم إلى التعاون المتقابل ، فالمريض مُسَخّرٌ للطبيب والطبيب مُسخّر للمعمار في حوائج اخرىْ ، أو الفلاح مسخّر للتاجر ، لأنّ لكل واحدٍ منهم أفضليّة على الآخر من جهة معينة ، وهذه بذاتها تُوجِد (الخدمات المتقابلة) أو (التسخير) وفق التعبير القرآني.
وقد اتفق أغلب المفسّرين الإسلاميين من الشيعة والسُّنة على تفسير الآية بهذا الشكل ، أي كون المقصود من (سُخريّاً) هنا هو التسخير في الخدمات المتقابلة (١).
__________________
(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٤٦ ؛ تفسير الميزان ، ج ١٨ ، ص ١٠٤ ؛ القرطبي ، ج ٩ ، ص ٥٩٠٣ ؛ تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٢٠٩ ؛ تفسير روح المعاني ، ج ٢٥ ، ص ٧٢ ؛ تفسير المراغي ، ج ٢٥ ، ص ٨٥.