الاستعدادات الذاتية فتنتهي أخيرا إلى الذات ، وهو ينتهي إلى القدرة الأزلية ، وأشير إلى ذلك في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم ـ ٢٢].
ولو قلنا بأنّ الاختلاف بين الناس في المقاصد والغايات وسائر الفطريات لهم في الجملة مقهورة تحت إرادة الحي القيوم على نحو الاقتضاء لا العلية التامة لكان حسنا ، ويترتب على ذلك أهم أمور النظام الأحسن وأعظمها ، ويأتي شرح هذه الجمل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.
ومادة (بغي) تأتي بمعنى تجاوز الاقتصاد في ما هو قابل للتجاوز سواء تجاوز أم لا. وهو على أقسام : فتارة من الحق إلى الحق. وأخرى من الباطل إلى الحق ، وهما ممدوحان. وثالثة من الحق إلى الباطل. ورابعة من الباطل إلى الباطل ، وهما مذمومان.
ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى : (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فهو بالمفهوم يدل على ثبوت البغي بالحق.
والمراد به في المقام القسمان الأخيران من الأقسام.
وقد تستعمل بمعنى أصل الطلب ، ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة كلّها بالنسبة إلى الناس ، ولم أجد استعمالها بالنسبة إلى الله تعالى ، ولا بالنسبة إلى أهل الآخرة فيها ، سواء كان في النعيم أو في الجحيم.
والمعنى : إنّ الاختلاف إنّما حصل من حملة الكتاب العالمين به بغيا منهم وتجاوزا فحرّفوا كتاب الله تعالى وضيّعوه وتعدّوا حدوده.
ويستفاد من قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أنّ الاختلاف الحاصل في الكتاب والشريعة لا يكون إلا من حملة الكتاب الذين قد استبانت لهم الآيات ، وهم الأصل في الاختلاف الواقع في الأديان الإلهيّة وأنّ غيرهم وإن كانوا على الخلاف ، ولكنّهم منحرفون عن الصّراط وليسوا بغاة ، ويشهد لذلك