الاختلاف في كلّ علم فإنّه يكون من العالمين به دون غيرهم ممن لا علم له به.
كما يستفاد من قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أنّ الكتاب إنّما نزل لرفع الاختلاف والتوفيق بين الناس وإسعادهم بما فيه من الحجج الواضحة والبراهين القويمة ، ولكن يشوب الحق أهواء العالمين به وأغراضهم الفاسدة وزيغهم بتحريف الكتاب أو تأويله بما لا يرتضيه عزوجل ، أو بتبديل آياته ، أو الأخذ بمتشابهاته والإعراض عن محكماته.
ومن مجموع الآية المباركة يستفاد أنّ الدّين المنزل من الله تعالى لا اختلاف فيه ، وهو موافق للفطرة التي لا تلبيس فيها ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم ـ ٣٠] ، والاختلاف إنّما يكون من غيره عزوجل الحاصل بين علماء الكتاب وحملته من بعد علم ، ولذا يكون من بغي وهو تعالى لا يعذر الباغي في الدّين ، وأما غيره ممن انحرف عن الدّين فقد يعذره إن اشتبه عليه ولم يستطع حيلة ، وعلى ذلك دلّت آيات كثيرة قال تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الشورى ـ ٤٢].
قوله تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).
مادة (أذن) تأتي بمعنى الإرادة والمشيئة ، وقد استعملت فيهما في القرآن الكريم فيما يقرب من عشرين موردا. ويلزمهما العلم ، ولا ريب في أنّ الإرادة والمشيئة أخص من العلم ، قال تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة ـ ١٠٢] ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [النساء ـ ٦٤] ، أي بإرادة الله وأمره. وقال تعالى : (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران ـ ٤٩] ، وقال تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة ـ ٣٣٩] ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
والآية في مقام بيان الإيمان الحق الذي لا اختلاف فيه واقعا إلا اختلاف حصل من بغي حملة الكتاب.