الكوفة ومن سوادها فيما شاؤوا من خصبهم وإخوانهم من أهل البصرة ، وأهل الشام في ضيق شديد ، قد غلت عليهم الأسعار ، وقلّ عندهم الطعام ، وفقدوا اللحم ، وكانوا كأنّهم في حصار ، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم ، فيقتتلون أشدّ القتال ، وكان الحجّاج يدني خندقه مرّة وهؤلاء أخرى حتّى كان اليوم الذي أُصيب فيه جبلة بن زحر.
ثمّ إنّ ابن الأشعث بعث إلى كميل بن زياد النخعي ، وكان رجلاً ركيناً وقوراً ، عند الحرب له بأس وصوت في الناس ، وكانت كتيبته تُدعى كتيبة القرّاء ، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون ، ويحملون فلا يكذبون ، فكانوا قد عرفوا بذلك.
قال الطبري : ثمّ دخلت سنة ثلاث وثمانين : ذكر الأحداث التي كانت فيها ، فما كان فيها من ذلك هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم.
ذكر هشام بن محمد ، عن أبى مخنف قال : حدّثني أبو الزبير الهمداني قال : كنت في خيل جبلة بن زحل ، فلمّا حمل عليه أهل الشام مرّة بعد مرّة نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه فقال :
يا معشر القرّاء ، إنّ الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم ؛ إنّي سمعت (علياً رفع الله درجته في الصالحين ، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصدّيقين) يقول : يوم لقينا أهل الشام أيّها المؤمنون إنّه مَنْ رأى عدواناً يُعمل به ومنكراً يُدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ، ومَنْ أنكر بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ، ومَنْ أنكر بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى