وبعد : فإن المتسمين بسمة الحدس والذكاء ، المقتعدين بهمتهم متون كواكب الجوزاء ، قد طرحوا فنون الأدب مطارح الصبا ، وفرقوا ما اجتمع عندهم أيادي سبا ، وأوسعوها قلى وهجرا ، وعدوها فضولا من القول وهجرا ، لما أن جفوة الحظ داء شكته الأفاضل من قديم ، وعادة معوجة لا تكاد مدة تستقيم ، فبينما هو ينظر إليهم بوجه عبوس ، ويشن الغارة عليهم بحرب البسوس ، إذ لمحهم بمحيا طليق ، وحياهم تحية رفيق ، وأسارير السرور على غرته طالعة ، ولوائح النور على طلعته ساطعة ، فسبروا ما استوفاه لسان حاله ، وخبروا ما استخفاه من زخارف محاله ، فإذا زيفه قد بدله جيدا ، وحيفه رمى به مكانا بعيدا ، ثم أهداهم بهدية أبناء الأدب ، حسناء من نفائس مخبآت العرب ، وافت من قبل غوطة الشام ، المفتر ثغرها من عرف البشام.
أتذكر يوم تصقل عارضيها |
|
بفرع بشامة سقي البشام (١) |
فتمتع بمحاسنها أدباء العصر ، واجتلوا من لألائها بارق الجبين والثغر ، لما أن وضاءتها مقتبسة من سنا بدر المعالي ، زينة الأيام والليالي ، شمس الزمان ونور حلكه ، وجوهر الأوان وقطب فلكه ، رأس المعتنين بقواعد الإفتاء والتدريس ، وعماد المتصدرين لإشادة الأحكام والتأسيس ، أعني به الخليل الجليل ، والجهبذ النبيل ، منتدى كل حاضر وبادي ، ومنهل كل وارد وصادي ، من أصبح به بيت المراديّ شامخا إلى السهى ، ومكين الأصل والفرع لا بدأ لفضله ولا انتها ، قد نظم من ألفاظه الحسنة ، وبدائع معانيه المزينة ، أبياتا تضمنت اقتباسا لطيفا ، وموقعا بحسن الكناية ظريفا ، ونسج على منواله بعض أخدانه ، وجماعة من خلّص إخوانه. واتفق لبعض إخواننا حضور هذه المجالسة ، فأثبتها عنده في ديوانه المراسلة.
ثم لما قدم إلى شهبائنا الساطعة ، ونزل بساحتها الواسعة ، أتحف بتلك المساجلة الفائقة ، والمعارضة اللائقة ، جناب الأوحد المحترم ، عالي المكارم والشيم ، وارث مقام العلم بالاستحقاق التام ، وعامر ركن المجد عن آبائه الكرام :
إن السريّ إذا سرى فبنفسه |
|
وابن السريّ إذا سرى أسراهما |
أعني به السيد محمد أفندي قدسي ، نور الله بصيرته بالفتح القدسي ، فعارض هاتيك
__________________
(١) البيت لجرير.