خلفائه وليا لله عارفا به ناصحا لعبيده دالا عليه قائما بأمره عالما عاملا كاملا وقورا.
ثم أذن له بالرجوع إلى حلب فرجع إليها وأخذ في الإرشاد بقاله وحاله ، وهرعت الناس إليه وصارت تضرب به الأمثال في الورع والعلم والعمل ، واشتهر بالمكاشفات الجلية.
وكان جماعته لا يقدرون على مواجهته إذا وقعت منهم هفوة وإن قلتّ حتى يتداركوها بتوبة ، فإن لم يلحقوها بتوبة مقتهم وأغلظ عليهم المقال. وما أضمر أحد في نفسه شيئا إلا واجهه به شفاها في معرض كلامه ، فإن أنكر أعاد عليه الكلام ، فإن أنكر زجره بالتعريض ، فإن لم يفد معه التعريض زجره بالتصريح وصرح له بما ارتكبه من الهفوات.
وكان محببا في قلوب الناس ، ومع ذلك لا يقدرون على مكالمته لشدة هيبته. وكان يحب العزلة عن الناس هاربا إلى الله تعالى ملازما لأوراده خصوصا قراءة الفاتحة ، قل أن تجده ساكتا مفرغا عن عبادة ما مراقبا خاشعا محققا مدققا في العلوم النقلية والعقلية في درس الخواص وموضحا بتقرير الأمثال وتوضيح الإشكال في دروس العوام. وكان ينزل الناس على قدر قربهم من الله تعالى لا على قدر ظهورهم في الدنيا. وكان إذا أطال أحد الجلوس عنده قال له : قم مع السلامة ، ولو كان من أعز أصدقائه ، وكان شفوقا على سائر الناس.
وأما بغضه للعصاة فمن حيث المخالفة لربهم ، ففي الحقيقة شفقة عليهم. وليس عنده اعتراض على ما في الكون ، بل كل ما فيه يراه حسنا من حيث صدوره من الفاعل المختار ، وكان كثيرا ما يتمثل بشطر هذا البيت ويقول : (وقبح القبح من حيثي جميل). وكان المرجع إذا اختلفت الآراء ، كشافا للمعضلات ، أستاذ العصر.
وقد عرف قدره في حلب والشام ومصر. تصدر للإفتاء والتدريس بحق ، وكانت دروسه حافلة لطلاقة لسانه وحسن تقريره وضربه للأمثال وتحريره وتنقيحه للأقوال ، ولا يغضب ويرضى إلا لله تعالى ، ولا يخاف الخلق ، ولا يقدر أحد أن يعترض عليه من الرجال لوفور علمه وخوفهم من أسرار باطنه ، وله الصدارة في حلب وغيرها ، ولكن تنزه عنها ورغب في الخمول والخفا ، والذي يراه من بعيد ظنه من أهل الجفا. وكان في التواضع على جانب عظيم ، فما رؤي أنه ركب فرسا أو بغلا أو حمارا في البلد قط ، وما أعطى