ببناء مكتب رشدي وصار يحث الناس على تعليم أبنائهم وإخراجهم من هذا الجهل الفاشي فيهم ، فصار الناس من ذلك الحين يرسلون بأبنائهم لهذا المكتب ، وفشت فيما بينهم القراءة والكتابة بعد أن كانت الأمية غالبة فيهم.
وكان مع تلك الهمة آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، وربما سعى وهو في الرقة في إزالة المنكر بيده ، وذلك لما صار له هناك من الكلمة النافذة والقول المسموع ، ولما في قلوب الأهالي من المحبة له لما وجدوه فيه من الاستقامة والزهد فيما في أيديهم.
وكان يتردد في أثناء تلك المدة إلى حلب لزيارة أقاربه وأحبابه ، فكنت أزوره ويزورني لما بيني وبينه من الصداقة المحكمة والمودة الخالصة من عهد الآباء والأجداد ، بل ولما بيننا وبينه من نوع القرابة ، فإن أخاه الشيخ عارف الذي لا زال حيا إلى الآن كان متزوجا ببنت عمتي الحاجّة عائشة. وأذكر أنه في إحدى قدماته صادف أن عقد عقدا لبعض أقاربنا في قاعتنا الكبيرة في دارنا في محلة باب قنسرين ، وحضر هذا العقد الجم الغفير من العلماء والفضلاء والوجهاء ، وكان المترجم فخطب خطبة النكاح وهي من إنشائه الحسن ، فكان لها تأثير عظيم في النفوس ، وكان لها رنة استحسان والكثير من الناس يتذكرونها إلى الآن.
ولم يزل على طريقته الحسنة وحرمته وإجلاله عند أهالي الشهباء والرقة إلى أن توفي هناك ليلة السبت سلخ شهر ذي الحجة سنة ١٣٣٦ ، وخرج لتشييع جنازته معظم أهل الرقة الرجال والنساء والأطفال ، ودفن بالقرب من مقام أويس القرني ، رحمهالله تعالى. ولما جاء نبأ نعيه إلى حلب أسف عليه جميع عارفي فضله وكريم أخلاقه.
وكان مربوع القامة إلى الطول أقرب ، بدينا ، مستدير الوجه أبيضه ، كث اللحية نيّر الشيبة ، دائم البشاشة يبدو البشر على أسارير وجهه ، محبوبا لدى الحكام والوجهاء مقبول الشفاعة لديهم.
وله من المؤلفات رسالة سماها «النافجة المسكية في الظباء الهندية» حقق فيها مسألة الروح واختلاف العلماء فيها تحقيقا جميلا. ورسالة في التقاء الختانين سماها «الأكسال في حديث الإنزال» وهو (إنما الماء من الماء) ، وعدة خطب منبرية ملتزما ذكر الفروع الفقهية والمواعظ الحكمية ، وعدة خطب في عقود الأنكحة منها الخطبة التي ألمعنا إليها ، ولو لا طولها لأتينا عليها برمتها.