والخلاصة أنه قد كان الآية الكبرى في معرفة اللغة وأشعار العرب وأخبارهم. وكان إذا تكلم في الأدب يخال سامعه أنه لم يشذ عنه نادرة منه وأنه يمكنه أن يملي من حفظه كتاب الأغاني وشرح ديوان الحماسة وأمالي القالي وكامل المبرد ومختارات الشعراء الثلاثة الطائي والبحتري والمتنبي وشعر أبي العلاء اللزوميات وسقط الزند وغير ذلك من محفوظاته التي يستبعد العقل حفظها ووعيها في صدره.
نشأته وأخلاقه :
نشأ رحمهالله في طاعة الله ، فلم تعرف له صبوة في شيء سوى الانكباب على العلم منذ حداثة سنه ونعومة أظفاره ، ملازما مدرسته بعيدا عن قرناء السوء ، ولم يتزوج مطلقا ، ينفر من الزواج. وكنت إذا عرّضت له بالزواج ورغّبته فيه ينشدني قول المتنبي :
وما الدهر أهل أن يؤمل عنده |
|
حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل |
ثم يتبع هذا البيت بأبيات كثيرة في هذا المعنى من اللزوميات وغيرها.
وكان لا يغفل التدقيق في أحوال الدنيا ومراقبة شؤونها وتلاعبها بأهلها ، فكان يراها كما هي حقيقتها دار محنة وشقاء ، نعيمها زائل وظل الحياة فيها متنقل باطل ، تعاقب على أهلها السعادة والشقاء ، ولذا كان حب الدنيا الذي يعتري قلوب عشاقها المتهالكين في طلبها وجمع حطامها بعيدا عن قلبه ، فكان لا يفرح بما أوتيه ولا يحزن على ما فاته ، نقي الفؤاد من مرض الحقد والحسد ، نفورا من آفة الغيبة والنميمة ، حتى إنه كان لا يقابل من بلغه عنه أنه حسده أو اغتابه بغير قوله : عفا الله عنه.
وكان مع هذه الخلال الحميدة سخي الطبع يحب التفضل على الإخوان ولا يقصر في برهم وإكرامهم ، كما أنه لا يقصر في التصديق على الفقراء والمعوزين.
وكان لا يتأخر عن إجابة من طلب منه قرضا وإن علم أنه غير قادر على الوفاء. وكان لطيب سريرته لا يظن السوء بأحد ، فكان عظيم الثقة بمن يأتمنه على ماله مكتفيا منه بقوله.
وظائفه وخدماته :
ناهز رحمهالله سن الخمسين ولم يكن له من الوظائف المقررة سوى نحو ٢٠٠ قرش