وحدث أنه بينما كان ذات يوم يتجول في جبال (أنس) الذي هو تقريبا مبدأ منشأ الثورة في بلاد اليمن صادفه رجل من مقدمي هذه الجبال يقال له المقداد ، ولعله الآن في قيد الحياة ، فقال له المقداد : تعال امش معي لأريك مغارة كبيرة هامة ، فظن أنه يقصد أن يريه محلا قديما من الآثار التاريخية ، فذهب معه ، ولما دخل المغارة لم يجد فيها ما يستلفت النظر ، فعندئذ قال له : أرأيت سعة هذه المغارة يا حضرة البيك ، إن الليرات التي يدفعها أهالي هذا القضاء ظلما وفضولا لتملأ هذه المغارة عدة مرات ، وإنا إلى الآن لم نقدر أن نملأ بطن زكريا باشا الجركسي ، ولم يبق بين أيدي الأهالي سوى أحجار أبنية هذا القضاء المخرب وأنقاضه ، فهل من الممكن بعد هذا كله ألّا نعصي ولا نثور ، فأنتم يا أرباب الحل والعقد ، إذا لم تتداركوا الأمر وترفعوا الظلم والعسف فمن المستحيل أن يسود الأمن وترجع الطمأنينة إلى هذه الربوع. وكن على يقين أنا اليمانيين نحب الترك أكثر من حبهم لأنفسهم. قال هذا وتنفس الصعداء.
وقيل إنه كان لزكريا باشا هذا ثمانون ألف ليرة عثمانية ذهبا في المصرف الإنكليزي في عدن ، وشاع إذ ذاك أن الإنكليز ضبطوها وصادروها.
وكان المترجم من حين دخوله إلى اليمن إلى حين خروجه منها يدرس أحوالها وأخلاق أهليها ، ويختلط بكبرائها وساداتها والمقدمين فيها وجميع طبقات الناس ، ويذاكر علماءها ومشايخها ويطارحهم المسائل ويحاضرهم ، وذلك لمعرفته باللغة العربية وفصاحة لهجته ، ولوقوفه على كثير من الأحاديث النبوية وحفظه قسما من الأشعار العربية مثل المعلقات واللزوميات وديوان المتنبي ، ولذلك كان أينما حل يلقى من الحفاوة والإكرام ما لا يلقاه غيره ، ويلقى من أهل البلاد محبة وركونا إليه ، وكانوا إذا أرادوا الاستسلام لا يستسلمون على الأكثر إلا بواسطته ولا يثقون إلا به ويعتمدون عليه تمام الاعتماد ، وكان يعدهم بقرب انفراج الأزمة والتخلص من أوهام السلطان عبد الحميد التي بثها فيه من كان مستوليا على أفكاره من الرجال الذين كانوا محيطين فيه من المنافقين والدجالين ، حتى صارت منشأ تلك الفتن وحدوث هذه الثورات ، وكان يعني بذلك قرب إعلان الدستور.
وكان يتألم كثيرا لإراقة هذه الدماء البريئة وذهابها هدرا من الطرفين من غير ما جدوى ولا غاية ، وكل ذلك ناشىء من سوء الإدارة ومما يقع من أنواع الظلم والارتكابات.