وفي أثناء ذلك حضر إلى (إينه بولي) القائد الشهير كاظم قره بكر باشا قادما من أرزن الروم ذاهبا إلى أنقرة ، فعاد المترجم وتذاكرا في أمور شتى هامة ، وبعد خروجه من عنده بات يذرف الدمع. وما مضى على ذلك مدة شهرين إلا وأنشبت المنية فيه أظفارها.
والموت نقّاد على كفه |
|
جواهر يختار منها الجياد |
ونقلت جثته إلى الآستانة ، وحين وصولها إليها جرى لها استقبال فائق ، ودفن حسب وصيته في جامع السليمانية ، فرحمهالله رحمة واسعة.
أما اليونانيون فإنهم توغلوا في البلاد العثمانية حتى قاربوا أنقرة ، وكانت الجيوش التركية تفسح لهم المجال خداعا منهم ، ثم كرت عليهم وضربتهم تلك الضربة الشديدة ، وفي مدة عشر أيام فتكت بهم فتكا ذريعا وقتلت منهم مقتلة عظيمة وأرجعتهم إلى إزمير وزج الكثير منهم في قعر البحر ، واستردت منهم إزمير وجميع بلادها المحتلة. والوقائع معلومة مشهورة نشرتها صحف العالم في حينها بملء الإعجاب ودونت تفاصيلها في بطون الأسفار.
وكان رحمهالله على غاية من الشجاعة والإقدام ، لا يعرف الكلل في أعماله ولا الملل في أشغاله ، ذا وقار وهيبة ورأي ثاقب ، مفرط الذكاء ، سريع الانتقال ، حلو الحديث ، لطيف المحاضرة ، بعيدا عن الرذائل وسفاسف الأمور ، لا يقبل التزلف ولا يحب الشهرة والفخفخة ، سخي اليد يصرف كثيرا في مساعدة أحبابه وفي سبيل الخير.
وكان يجيد اللغة التركية تمام الإجادة ، آخذا من العربية وآداب لغتها بحظ وافر ، ويتكلم باللغة الإفرنسية والألمانية ويجيد الكتابة فيهما ، ويفهم الكلام بالفارسية لكن لا يقدر أن يتكلم فيها. وفي منفاه في مالطة كان يدرس اللغة الإنكليزية.
وكان المنفيون معه يعجبون بصبره وعظيم ثباته وعدم جزعه وتحمله للمشاق ودماثة أخلاقه وحسن طويته. وكان كل من له به معرفة وله معه صلة يعرف فيه هذه المحاسن وتلك المزايا.
وإنما المرء حديث بعده |
|
فكن حديثا حسنا لمن وعى |