ما يؤسف عليه منه :
أما ما يؤسف عليه منه فهو أنه رحمهالله عمر طويلا وبلغ سنا عالية ولم يخط لبني قومه أثرا علميا يتمتعون بفرائده ويقتبسون من فوائده ، فقد مضى ومضى معه ذلك العلم الواسع والضوء الساطع. ولعمري لو كان ممن يميل إلى فكرة الأخذ من مذهب الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم من الأئمة المعتبرين مما يتراءى أنه أقوى دليلا أو أوفق لمصلحة الناس أو أرفق بهم لكان وحده لما آتاه الله من سعة العلم ودقة النظر كفئا لأن يقوم بوضع هذا الكتاب الذي نرى الأمة الإسلامية في حاجة شديدة إليه كما قدمناه آنفا في ترجمة الشيخ محمد الحنيفي.
على أنه لم يكن ممن يميل لوضع كتاب على هذه الطريقة فكان ينبغي على الأقل أن يعتني بتنقيح كتاب «الدر المختار» وحاشيته للعلامة ابن عابدين اللذين سبرهما سبرا وقتلهما خبرا ، وذلك بأن يدمجهما ككتاب واحد ويختصر ويحذف منه ما يتعلق بالانتقادات اللفظية ، ويلحق منه المستطردات بأبوابها ، وينبه على ما فيه من المؤاخذات والأبحاث المعترضة ، ويقتصر فيه على نتائج الأبحاث ، وبذلك يصغر حجمه ويسهل مراجعته ويقرب من يد المتناول ويصلح لأن يدرس في المدارس العلمية الدينية بسهولة ويكون الأصل أمّا يرجع إليه وقت اللزوم. ولا شك أن هذا أيضا أمر يحتاج إلى عناية شديدة ورسوخ في العلوم ، وكان رحمهالله سداد هذا الثغر وكفء هذا الأمر.
وقد تراءى لنا أن السبب في عدم تصديه للتأليف هو أنه لما اشتد غاربه ولمعت بوارق براعته التفت الناس إليه في أمورهم وتحرير معاملاتهم وصكوكهم ، إذ كانوا لا يركنون في مسائلهم الهامة إلا إليه ولا يعولون إلا عليه ، ومعظم مسائل الحقوق والمعاملات كانت عائدة إذ ذاك للشرع الشريف ، فلم يكن يجد فراغا أصلا ، بل كانت أوقاته مستغرقة في تدريسه وفي أمور الناس. ولما كثرت المحاكم النظامية والمحامون والنظاميون وصارت أكثر معاملات الناس نظامية قلت علائق الناس معه ، ولكن كان قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا ، فلم تعد قواه تعينه على ذلك. وعلى كل فلا يخلو الحال من الأسف على عمل كان جديرا به.