وهو قوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يوهم أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان في هذه الملّة؟.
والجواب من وجوه :
الأول : أنّ التّرك عبارة عن عدم التعرّض للشيء ، وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضا فيه.
والثاني : أن يقال : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان عبدا لهم ـ بحسب زعمهم ـ ولعلّه ـ قبل ذلك ـ كان لا يظهر التوحيد ، والإيمان ؛ خوفا منهم ، ثم إنّه أظهره في هذا الوقت ؛ فكان هذا جاريا مجرى ترك ملّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
قوله : (إني تركت) يجوز أن تكون هذه مستأنفة ، أخبر بذلك عن نفسه ، ويجوز أن تكون تعليلا لقوله : (ذلك مما علمني ربي) ، أي : تركي عبادة غير الله ، سبب لتعليمه إيّاي ذلك ، وعلى الوجهين لا محلّ لها من الإعراب ، و «لا يؤمنون» : صفة ل «قوم».
وكرّر «هم» في قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ؛ قال الزمخشريّ : «للدّلالة على أنهم خصوصا كافرون بالآخرة ، وأنّ غيرهم مؤمنون بها».
قال أبو حيّان (١) : «وليست «هم» عندنا تدلّ على الخصوص».
قال شهاب الدّين (٢) : «لم يقل الزمخشريّ إنها تدلّ على الخصوص ، وإنّما قال : «وتكرير «هم» للدلالة على الخصوص» فالتكرير هو الذي أفاد الخصوص وهو معنى حسن».
وقيل : «كرّر «هم» ؛ للتوكيد.
وسكّن الكوفيّون الياء (٣) من : «آبائي» ، ورويت عن أبي عمرو ، وإبراهيم ، وما بعده : بدل ، أو عطف بيان ، أو منصوب على المدح.
قوله (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، لمّا ادّعى النبوة ، وتحدّى بالمعجزة ـ وهو علم التّعبير ـ قرّر كونه من أهل النبوة ، وأنّ أباه وأجداده كانوا أنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فإنّ الإنسان متى ادّعى حرفة أبيه وجده ، لم يستبعد ذلك منه ، وأيضا : فكما أنّ درجة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإسحاق ، ويعقوب ، كان أمرا مشهورا في الدنيا ، فإذا ظهر أنّه ولدهم ، عظّموه ، ونظروا إليه بعين الإجلال ؛ فكان انقيادهم له أتمّ وتتأثر قلوبهم بكلامه.
فإن قيل : إنّه كان نبيّا ، فكيف قال : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) ، والنبيّ لا بدّ وأن يكون مختصا بشريعة نفسه؟.
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٩.
(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٨٣.
(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٤٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٩ والدر المصون ٤ / ١٨٣.