فصل
اعلم أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قرّر التوحيد والنبوة ، عاد إلى الجواب عن السّؤال الذي ذكر ، ففسّر رؤياهما ، فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) ، وهو صاحب الشّراب (فَيَسْقِي رَبَّهُ) : يعني الملك ، وأما الآخر : يعني الخبّاز ، فيدعوه الملك ، ويخرجه ، ويصلبه ؛ فتأكل الطير من رأسه.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «لمّا سمعا قول يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قالا : ما رأينا شيئا إنّما كنّا نلعب» ، قال يوسف : «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» (١).
فإن قيل : هذا الجواب الذي ذكره يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكره ؛ بناء على أنّ الوحي من قبل الله ـ تعالى ـ أو بناء على علم التّعبير.
والأول باطل ؛ لأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ نقل أنه إنّما ذكره على سبيل التعبير ، وأيضا قال الله : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) ، ولو كان ذلك التعبير مبنيّا على الوحي ، كان الحاصل منه القطع واليقين ، لا الظنّ والتّخمين.
والثاني ـ أيضا ـ باطل ؛ لأن علم التعبير مبنيّ على الظنّ ، والقضاء : هو الإلزام والجزم والحكم البتّ (٢) ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنّ والحسبان؟.
والجواب : لا يبعد أن يقال : إنهما سألاه عن ذلك المنام ، صدقا فيه أو كذبا ، فإنّ الله ـ تعالى ـ أوحى إليه أنّ عاقبة كلّ واحد منهما تكون على ذلك الوجه المخصوص ، فلما نزل الوحي بذلك الغيب عند ذلك السؤال ، وقع في الظنّ أنّه ذكره على سبيل [التّعبير](٣).
ولا يبعد ـ أيضا ـ أن يقال : إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير.
وقوله «قضي الأمر الّذي فيه تستفتيان» ما عنى به أنّ الذي ذكره واقع لا محالة ، بل عنى أنّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.
قوله «قضي الأمر» قال الزمخشريّ (٤) : «ما استفتيا في أمر واحد ، بل في أمرين مختلفين ، فما وجه التوحيد؟ قلت : المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك ، وما سجنا من أجله ، والمعنى : فرغ من الأمر الذي عنه تسألان».
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١٨ ، ٢١٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٢) سقط من : ب.
(٣) في ب : التعيين.
(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧١.