والثالث : أنّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته ، حيث قالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) ، وفي المرة الثانية قولها : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ، وهذا إشارة إلى أنّه صادق في قوله : «هي راودتني عن نفسي».
والرابع : قول يوسف (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ).
قال ابن الخطيب (١) : «والحشويّة يذكرون أنّه لما قال هذا الكلام ، قال جبريل ـ عليهالسلام ـ : ولا حين هممت (٢) ، وهذا من رواياتهم الخبيثة ، وما صحّت هذه الرواية في كتاب معتمد ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعيا منهم في تحريف ظاهر القرآن».
والخامس : قوله (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) ، يقتضي أن الخائن لا بدّ أن يفتضح ، فلو كان خائنا ، لوجب أن يفتضح ؛ ولما خلصه الله من هذه الورطة ، دلّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين.
ووجه آخر : وهو أنّ ـ في هذا الوقت ـ تلك الواقعة صارت مندرسة ، فإقدامه في قوله (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ، مع أنّه [خانه](٣) بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشة عظيمة ، وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما ، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلا ؛ لا يليق بأحد من العقلاء ، فكيف يليق إسناده إلى سيّد العقلاء ، وقدوة الأصفياء (٤) ، فثبت أنّ هذه الآية تدلّ دلالة قطعيّة على براءته مما يقول الجهّال.
قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) الآية اعلم أنّ تفسير هذه الآية يختلف باختلاف ما قبلها ؛ لأنّه إن قلنا قوله (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ، كلام يوسف ، كان هذا ـ أيضا ـ كلام يوسف ، وإن قلنا : إنه من تمام كلام المرأة ، كان هذا ـ أيضا ـ كذلك ، وإذا قلنا : إنه من كلام يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ، فقالوا : إنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قال : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ، قال جبريل ـ عليهالسلام ـ ولا حين هممت ، فعند هذا ، قال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، أي : بالزّنا ، (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي عصم ، (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ) للهمّ الذي همّ به ، «رحيم» ، أي لو فعلته ، لتاب عليّ.
قال ابن الخطيب (٥) ـ رحمهالله ـ : «هذا ضعيف ؛ فإنّا بينا في الآية الأولى برهانا قاطعا على براءته من الذنب».
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٢٤.
(٢) في ب : همت.
(٣) في ب : خائن.
(٤) في ب : الضعفاء.
(٥) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٢٥.