وقيل : ينفى. والّذي ورد في الحديث أنّه لم ينف العائن ، ولا أمره بلزوم بيته ولا حبسه ، بل قالوا : يكون الرّجل الصّالح عائنا ، وأنه لا يقدح فيه ، ولا يفسّق به ومن قال : يحبس ، ويؤمر بلزوم بيته ؛ فذلك للاحتياط ، ودفع ضرره.
قال الجبائيّ : إنّ أبناء يعقوب اشتهروا ، وتحدّث النّاس بهم ، وبحسنهم ، وكمالهم فقال : (لا تَدْخُلُوا) تلك المدينة (مِنْ بابٍ واحِدٍ) على ما أنتم عليه من العدد ، والهيئة ، ولم يأمن
عليهم حسد النّاس ، أو قال : لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه ، فيحبسهم.
وهذا وجه محتمل لا إنكار فيه إلّا أنّ القول الأوّل أولى ؛ لأنّه لا امتناع فيه بحسب العقل ، والعرف كما بيّنا ، والمتقدّمون من المفسرين أطبقوا عليه ، فوجب المصير إليه.
ونقل عن الحسن أنه قال : خاف عليهم العين ، فقال : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) ثمّ رجع إلى علمه ، فقال : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، وعرف أن العين ليست بشيء (١).
وكان قتادة يفسّر الآية بإصابة العين ، ويقول : ليس في قوله : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إبطال له ؛ لأن العين ، وإن صحّ ، فالله قادر على دفع أثره (٢).
وقال النّخعيّ : كان عالما بأنّ ملك مصر هو ولده يوسف إلّا أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ما أذن له في إظهار ذلك ، فلمّا بعث أولاده إليه ، وقال : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) ، وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة ، وقوله : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فالإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، ومأمور بأن يجزم بأنّه لا يصل إليه إلّا ما قدره الله ـ تعالى ـ وأنّ الحذر لا ينجي من القدر ، فإنّ الإنسان مأمور بالحذر عن الأشياء المهلكة ، والأغذية الضّارة ، وبالسّعي في تحصيل المنافع ، ودفع المضار بقدر الإمكان ، ثمّ مع ذلك ينبغي أن يكون جازما بأنّه لا يصل إليه إلّا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلّا ما أراد الله ، فقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، وقوله : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التّوحيد المحض ، والبراءة عن كلّ شيء سوى الله ـ تعالى (٣).
فإن قيل : كيف السّبيل إلى الجمع بين هذين القولين (٤)؟.
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٩).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٣) ينظر : تفسير الرازي (١٨ / ١٣٩).
(٤) في ب : العقلين.