(يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) غلبة البكاء ، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين ، فتصير العين كأنها ابيضّت من بياض ذلك الماء ، فقوله : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) كناية عن غلبة البكاء. رواه الواحدي عن ابن عبّاس. وقال مقاتل : كناية عن العمى ، فلم يبصر بهما شيئا حتى كشفه الله ـ تعالى ـ بقميص يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) ، وقال : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) ؛ ولأنّ الحزن الدّائم ، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى ؛ لأنّه يوجب كدورة على سواد العين.
وقيل : ما عمي ، ولكنّه صار بحيث يدرك إدراكا ضعيفا ؛ كما قال : [الطويل]
٣١٣٤ ـ خليليّ إنّي قد غشيت من البكا |
|
فهل عند غيري مقلة استعيرها |
قيل : ما صحّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون سنة ، وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
قوله : «تفتؤ» هذا جواب القسم في قوله : «تالله» وهو على حذف لا أي : لا تفتؤ كقول الشّاعر : [البسيط]
٣١٣٥ ـ تالله على الأيّام ذو حيد |
|
بمشمخرّ به الظّيّان والآس (١) |
أي : لا تبقى ، ويدلّ على حذفها : أنّه لو كان مثبتا ؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التّوكيد معا عند البصريين ، أو إحداهما عند الكوفيين ، وتقول : والله أحبّك : تريد لأحبك ، وهو من التّورية ، فإن كثيرا من النّاس يتبادر ذهنه إلى إثبات المحبّة ، و «تفتأ» هنا ناقصة بمعنى لا تزال.
قال ابن السّكيت : «ما زلت أفعله ، وما فتئت أفعله ، وما برحت أفعله ، ولا يتكلم بهنّ إلّا في الجحد».
قال ابن قتيبة : «يقال : ما فترت وما فتئت ، لغتان ، ومعناه : ما نسيته ، وما انقطعت عنه» ، وإذا كانت ناقصة ؛ فهي ترفع الاسم ، وهو الضمير ، وتنصب الخبر ، وهو الجملة من قوله : «تذكر» أي : لا تزال ذاكرا له ، يقال : ما فتىء زيد ذاهبا ؛ قال أوس بن حجر : [الطويل]
٣١٣٦ ـ فما فتئت حتّى كأنّ غبارها |
|
سرادق يوم ذي رياح ترفّع (٢) |
وقال أيضا : [الطويل]
٣١٣٧ ـ فما فتئت خيل تثوب وتدّعي |
|
ويلحق منها لاحق وتقطّع (٣) |
__________________
(١) تقدم برقم ٤٤.
(٢) ينظر البيت في ديوانه (٥٩) ، والكشاف ٢ / ٣٣٩ ، وفتح القدير ٣ / ٤٨ والبحر ٥ / ٣٢٤ ، والطبري ١٣ / ٤١ ، والدر المصون ٤ / ٢٠٩.
(٣) البيت لأوس بن حجر. ينظر : ديوانه (٥٨) ، مجاز القرآن ١ / ٣١٦ ، الكشاف ٢ / ٣٣٩ وشواهد الكشاف ٢ / ٤٤٢ والجمهرة ٣ / ٢٨٧ ، تفسير غريب القرآن ٢٢١ ، البحر ٥ / ٣٢٤ ، الطبري ١٣ / ٢٨ ، الدر المصون ٤ / ٢٠٩.