نزيل كفرا خلقه الله فينا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة ، وتفسد بعثة الرسل.
الثالث : إذا كان الكفر حاصلا بتخليق الله ـ تعالى ـ ومشيئته ، فيجب أن يكون الرضا به واجبا ؛ لأن الرّضا بقضاء الله واجب ، وذلك لا يقوله عاقل.
الرابع : أنّ مقدمة الآية ، وهي قوله ـ جل ذكره ـ (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) يدلّ على العدل ، وأيضا مؤخر الآية يدلّ عليه وهو قوله ـ جلّ ذكره ـ (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فكيف يكون حكيما من كان خالقا للكفر والقبائح ؛ فثبت بهذه الوجوه أنّه لا يمكن جعل قوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) دليل على خلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه :
الأول : المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالّا كما يقال : فلان يكفّر فلانا ويضله أي: يحكم بكونه كافر ضالا.
والثاني : أنّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنّة إلى النّار.
والثالث : أنّه يقال : إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله ، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنّه بالألطاف صار كأنه هداه.
قال الزمخشري (١) : «المراد بالإضلال التخلية ، ومنع الإلطاف وبالهداية : اللّطف ، والتّوفيق».
قال ابن الخطيب (٢) ـ رحمهالله ـ : «والجواب قوله ـ عزوجل ـ (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) لا يليق به أن يضلهم.
قلنا : قال الفراء : إذا ذكر فعل ، وبعده فعل آخر ، فإن كان الفعل الثّاني مشاكلا للأول نسقه عليه ، وإن لم يكن مشاكله ، استأنفه ورفعه ، نظيره : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ) [التوبة : ٣٢] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك ؛ لأنّه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يمكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف.
ونظيره أيضا قوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) [الحج : ٥] ومن ذلك قولهم : «أردت أن أزورك فمنعني المطر» بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه ؛ ومثله قول الشاعر : [الرجز]
٣١٩٢ ـ يريد أن يعربه فيعجمه (٣)
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٩.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٦٤.
(٣) البيت للحطيئة الديوان (١١١) ينظر : معاني الفراء ٢ / ٦٨ ، الرازي ١٩ / ٨٣ ، إعراب النحاس ٣ / ٣٦٤ ، الكتاب ١ / ٤٣٠ ، الخزانة شاهد (١٤٩) ، المقتضب ٢ / ٣٣ ، العقد الفريد ٢ / ٤٨٠ ، الأغاني ٢ / ٥٧ ، العمدة ١ / ٧٤ ، المغني (١٦٨) ، الهمع ٢ / ١٣١ ، الدرر ٢ / ١٧١ ، اللسان (عجم) ، ملحقات ديوان رؤبة (١٨٦) ، شرح شواهد المغني ٤ / ٩٥ ، الدر المصون ٣ / ٢٥٣. ـ