قوله تعالى : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : قدرة وتسلط ، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي.
قوله : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) فيه وجهان :
أظهرهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأنّ دعاءه ليس من جنس السّلطان ، وهو الحجة البينة فهو كقولكم : ما تحيّتهم إلّا الضرب.
والثاني : أنه متصل ؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه ، فهو نوع من التسلّط.
وقرىء (١) «فلا يلوموني» بالياء من تحت على الالتفات ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢].
ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام.
ومعنى الآية : ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله ؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي ، ولا تلتفتوا إليّ ، فلما رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللّوم عليكم لا عليّ.
قالت المعتزلة (٢) : هذه الآية تدل على أشياء :
أحدها : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله ـ تعالى ـ لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنّ الله ـ تعالى ـ قضى عليكم بالكفر ، وأجبركم عليه.
والثاني : أن ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان ، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله.
والثالث : يدل على أنّ الإنسان لا يجوز لومه ، وذمه ، وعقابه بسبب فعل الغير ، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم.
وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه : بأن هذا قول الشيطان ، فلا يجوز التمسك به.
وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا القول منه باطلا لبينه الله ـ تعالى ـ وأظهر إنكاره ، فلا فائدة في ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل ، والقول الفاسد.
ألا ترى أن قوله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) كلام حق ، وقوله (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) قول حق بدليل قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢].
__________________
(١) ينظر البحر المحيط ٥ / ٤٠٨ والدر المصون ٤ / ٢٦١.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٨٨.