فإن قيل : «ربما» للتقليل ، وهذا التّمني يكثر من الكفار.
فالجواب : أنّ «ربما» يراد بها التكثير ، والمقصود إظهار الترفع ، والاستغناء عن التّصريح بالغرض ؛ فيقولون : ربّما ندمت على ما فعلت ، ولعلّك تندم على فعلك ؛ إذا كان العلم حاصلا بكثرة النّدم ، قال : [البسيط]
٣٢٦١ ـ أترك القرن مصفرّا أنامله |
|
........... (١) |
وقيل : التقليل أبلغ في التهديد ، والمعنى : أنّ قليل الندم كاف في الزجر عن هذا العمل ، فكيف كثيره؟.
وقيل : إنّ شغلهم بالعذاب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحيانا.
فإن قيل : إذا كان أهل القيامة ، يتمنّون أمثال هذه الأحوال ، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلّ ثوابه عن درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه ، والمتمنّي لما لم يجده يكون في الغصّة وتألّم القلب.
فالجواب : أحوال أهل الآخرة ، لا تقاس بأحوال الدنيا ؛ فإن الله ـ تعالى ـ يرضي كلّ واحد بما هو فيه ، وينزع عن قلوبهم الحسد ، وطلب الزيادات ؛ كما قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [الحجر : ٤٧].
قوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) [الحجر : ٣] الآية ، أي دع يا محمد ، الكفّار يأخذوا حظوظهم من دنياهم ، فتلك خلاقهم ، ولا خلاق لهم في الآخرة ، (وَيُلْهِهِمُ) : يشغلهم «الأمل» عن الأخذ بحظّهم من الإيمان والطّاعة ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) إذا [وردوا] (٢) القيامة ، وذاقوا وبال [صنعهم] (٣) وهذا تهديد ووعيد.
وقال بعض العلماء : «ذرهم» ، تهديد ، و (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، تهديد آخر ، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين؟! والآية نسختها آية القتال.
قوله «وذرهم» ، هذا الأمر لا يستعمل له ماض إلا قليلا ؛ استغناء عنه ب «ترك» ، بل يستعمل منه المضارع نحو : (وَيَذَرُهُمْ) [الأعراف : ١٨٦] ، ومن مجيء الماضي قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «ذروا الحبشة ما وذرتكم» ، ومثله : دع ويدع ، ولا يقال : ودع إلا نادرا ، وقد قرىء : (ما وَدَّعَكَ) [الضحى : ٣] مخففا ؛ وأنشدوا : [الرمل]
٣٢٦٢ أ ـ سل أميري ما الذي غيّره |
|
عن وصالي اليوم حتّى ودعه؟ (٤) |
__________________
(١) تقدم.
(٢) في ب : رأوا.
(٣) في أ : سفههم.
(٤) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري. ينظر : اللسان «ودع» ، الخصائص ١ / ٩٩ ، المحتسب ٢ / ٣٤ ، الخزانة ٥ / ١٥٠ ، الإنصاف ٢ / ٤٨٥ ، شرح شواهد الشافية ٥٣ والدر المصون ٤ / ٢٨٧.