وقيل : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوص ، فقال : كيف قتلوه ، وتركوا قميصه ، وهم إلى القميص أحوج منه إلى قتله ، فلمّا اختلفت أقوالهم ؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي (١) : «لعلّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يلطّخوه بالدّم توكيدا لصدقهم ؛ لأنّه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعا في نفس القميص ، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان ، فلو خرقوه مع لطخه بالدّم ، لكان الإيهام أقوى ، فلما شاهد يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ القميص صحيحا ؛ علم كذبهم».
قال عند ذلك : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : صبر جميل أمثل بي ، ويجوز أن يكون خبرا محذوف المبتدأ ، أي : أمري صبر جميل قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل. وقال قطرب : معناه فصبري صبر جميل.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر ، أو خبر هذا المبتدأ؟.
وضابطه : أن يكون مصدرا في الأصل بدلا من اللفظ بفعله ، فعبارة بعضهم تقتضي الوجوب ، وعبارة آخرين تقتضي الجواز ، ومن التصريح بخبر هذا النّوع ، ولكنه في صورة شعر ، قوله : [الطويل]
٣٠٦٨ ـ فقالت على اسم الله أمرك طاعة |
|
وإن كنت قد كلّفت ما لم أعوّد (٢) |
وقول الشاعر : [الرجز]
٣٠٦٩ ـ يشكو إليّ جملي طول السّرى |
|
صبر جميل فكلانا مبتلى (٣) |
ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبرا كما تقدم.
وقرأ أبيّ وعيسى (٤) بن عمر : «فصبرا جميلا» نصبا ، ورويت عن الكسائي وكذلك هي في مصحف أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ وتخريجها على المصدر الخبري ، أي : أصبر أنا صبرا ، وهذه القراءة ضعيفة إن خرجت هذا التّخريج ؛ لأنّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده ، إلّا في الطّلب ، فالأولى أن يجعل التّقدير : أنّ يعقوب رجع ، وأمر نفسه ، فكأنّه قال : اصبري يا نفس صبرا.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ٨٢.
(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة : ينظر : ملحق ديوانه ص ٤٩٠ وخزانة الأدب ٤ / ١٨١ والأغاني ١ / ١٨٥ وشرح شواهد المغني ١ / ٣٢١ ، ٢ / ٩٢٨ وتذكرة النحاة ص ٦٠١ والخصائص ٢ / ٣٦٢ وابن الشجري ١ / ٣٢٠ والمغني ٧٠١ والدر المصون ٤ / ١٦٤.
(٣) تقدم برقم ٥١٤.
(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥١ وقرأ بها أيضا الأشهب. ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٧ والبحر المحيط ٥ / ٢٩٠ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٦٤.