قلنا : إنهم بيّنوا أنه ـ تعالى ـ بشّره بالولد مع إبقائه على صفة الشّيخوخة ، وقولهم (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ)(١) لا يدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرّح في جوابهم بما يدلّ على أنّه ليس كذلك فقال : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ).
وأجاب غيره : بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنّه حصول المراد فيه ، فإذا بشّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه ، وسروره ، ويصير ذلك الفرح القويّ كالمدهش له ، والمزيل لقوّة فهمه ، وذكائه ، فربّما تكلم بكلمات مضطربة في ذلك الوقت.
وقيل أيضا : إنه يستطيب تلك البشارة ، فربّما يعيد السؤال ليسمع تلل البشارة مرّة أخرى ومرتين وأكثر طلبا للالتذاذ بسماع تلك البشارة ، أو طلبا لزيادة الطمأنينة والوثوق ، كقوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] وقيل أيضا : استفهم : أبأمر الله تبشروني ، أم من عند أنفسكم ، واجتهادكم؟.
قوله : (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ يريد بما قضى الله تعالى (٢).
وقوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) نهي لإبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن القنوط ، وقد تقدّم أنّ النهي لإنسان عن الشّيء لا يدل على كون المنهي فاعلا للمنهيّ عنه ، كقوله ـ جلّ وعزّ ـ (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ٤٨] (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [القصص : ٨٧].
قوله : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ) هذا استفهام معناه النفي ، ولذلك وقع بعد الإيجاب ب «إلّا».
وقرأ أبو عمرو (٣) ، والكسائي : «يقنط» بكسر عين هذا المضارع حيث وقع ، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها ، وفي الماضي لغتان «قنط» بكسر النون ، «يقنط» بفتحها ، وقنط «يقنط» بكسرها ، ولو لا أن القراءة سنة متبعة ، لكان قياس من قرأ : «يقنط» بالفتح أن يقرأ ماضيه «قنط» بالكسر ، لكنهم أجمعوا على فتحه في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] والفتح في الماضي هو الأكثر ، ولذلك أجمع عليه.
قال الفارسي : فتح النون في الماضي ، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات ، ويرجح قراءة «يقنط» بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات «فلا تكن من القنطين» كفرح يفرح فهو فرح.
__________________
(١) سقط من أ.
(٢) تقدم.
(٣) ينظر : السبعة ٣٦٧ ، والحجة ٣٦٧ ، والتيسير ١٣٦ والاتحاف ٢ / ١٧٧ ، ٥ / ٤٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٠.