وذكر غير الزجاج سؤالا ثالثا ، وهو : أنّه لو لم يوجد الهمّ لما كان لقوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فائدة.
واعلم أنّ ما ذكره الزجاج بعيد ؛ لأنّا [لا](١) نسلّم أنّ تأخير جواب «لو لا» حسن جائز ، إلا أنّ جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب ، فكيف وقد نقل عن سيبويه أنّه قال : «إنّهم يقدّمون الأهمّ فالأهمّ» ، والذي همّ بشأنه أعنى ؛ فكان الأمر في جواز التقديم ، والتّأخير مربوطا بشدّة الاهتمام ، فأمّا تعيين بعض الألفاظ بالمنع ، فذلك ممّا لا يليق بالحكمة ، وأيضا ذكر جواب «لو لا» باللّام جائز ، وذلك يدلّ على أنّ ذكره بغير اللّام لا يجوز ، وممّا يدل على فساد قول الزجاج قوله تعالى : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) [القصص : ١٠].
وأما قوله : لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فائدة.
فنقول : بل فيه أعظم الفوائد : وهو بيان أنّ ترك الهمّ بها ما كان لعدم رغبته في النّساء ، ولا لعدم قدرته عليهنّ ؛ بل لأجل أنّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، ثم نقول : الذي يدلّ على أنّ جواب : «لو لا» ما ذكرناه أن «لو لا» تستدعي جوابا ، وهذا المذكور يصلح جوابا له ؛ فوجب الحكم بكونه جوابا له لا يقال : إنّا نضمر له جوابا ، وترك الجواب ذكر في القرآن ، فنقول : لا نزاع أنه ذكر في القرآن ، إلا أنّ الأصل ألّا يكون محذوفا.
وأيضا : فالجواب إنّما يحسن تركه ، وحذفه ، إذا حصل في الملفوظ ما يدلّ على تعيينه ، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفا ؛ لأنّه ليس في اللفظ ما يدلّ على تعيين ذلك الجواب ، فإن ههنا أنواعا من الإضمارات ، يحسن إضمار كل واحد منها ، وليس إضمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرق.
المقام الثاني : سلمنا أنّ الهمّ قد حصل إلّا أنّا نقول : إن قوله : «وهمّ بها» لا يمكن حمله على ظاهره ؛ لأنّ تعليق الهمّ بذات المرأة محال ؛ لأنّ الهمّ من جنس القصد ، والقصد لا يتعلق بالذّوات ؛ فثبت أنّه لا بد من إضمار فعل محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور ، فهم زعموا أنّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ، ونحن نضمر شيئا آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه :
الأول : المراد أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ همّ بدفعها عن نفسه ، ومنعها من ذلك القبيح ؛ لأنّ الهمّ هو القصد ، فوجب أن يحمل في حق كلّ واحد على القصد الذي يليق به ، فالأليق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذّة ، والتّمتّع ، وأليق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقال : هممت (٢) بفلان ، أي : قصدته ودفعته.
__________________
(١) سقط من : ب.
(٢) في ب : همت.