الحابل بالنابل ، وقامت الثورات على قدم وساق ، وصارت الرعية وأفراد الجند يقتلون الأمراء وأهل الثراء ، وقتلت أسرة العائلة الأمبراطورية نفسها شر قتلة ومثل بها أفظع تمثيل.
وأما الجيوش التي كانت تحارب في الجبهات فصارت في هرج ومرج ، وصارت ترسل إلى قوادنا الأخبار والرسل أن يجيئوا ليستلموا بلادهم ، وأخذت تترك مواضعها وحصونها وترجع زرافات ووحدانا إلى بلادها تاركة ما لديها من المدافع والسلاح وبقية آلات الدفاع والذخائر والمؤن ، وكان شيئا كثيرا لا يحصى ، وصارت تقتل قوادها وضباطها إلا من كان منهم على فكرتهم وموافقا لغايتهم. فعلم عند ذلك أن تلك المناشير كانت حقيقية وأن روح لزوم التساوي بين جميع الطبقات المسماة (بالبولوشفيكية) قد انبعثت فيهم وصارت تسري بين الجنود رويدا رويدا إلى أن استحكمت حلقاتها فيهم وتأصلت تلك العقيدة في نفوسهم ، وما زالت تربو وتتعاظم إلى أن انفجرت في آن واحد في كل صقع وكأنها قنابل مرتبطة ببعضها البعض بشرائط كهربائية تحت ضغط زر واحد.
حينئذ نهضت الجيوش العثمانية وأخذت تمشي إلى الأمام مستردة بلدانها ومغتنمة جميع ما تركته عساكر الروس من عدة جهات بلا معارض ولا مقاوم. فمن جهة وصلت إلى القارص فما فوقها ، ومن جهة بلغت باطوم واحتلتها وشكلت حكومة تركية فيها وعينت متصرفا لها جميل بك النيّال الحلبي واستولت على تلك المناطق بأجمعها ، وهذا من أعجب الأمور في الحوادث الكونية ، ولكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه وأزال كل عقبة تكون في طريقه.
أما محمود كامل باشا فإنه بعد أن عاد إلى الآستانة قعد في بيته مدة إلى أن برىء من مرضه ، ثم عين مستشارا لنظارة الحربية للمرة الثانية. وكانت صفحات الحرب في جهات الألمان وجهات البلاد العثمانية ليست على ما يرام ، بل كانت الانكسارات والاندحارات تتوالى بأسوأ الحالات ، وصار يلوح للناظر أن هذه الحرب العامة الطاحنة للبشر قد دخلت في دورها الأخير وأنها ستضع أوزارها عما قريب.
وكان جمال باشا قائدا عاما على جيوش سورية وفلسطين. وأخيرا لما رأى أن كل مساعيه التي بذلها في هذه البلاد من قتل كبرائها ونفي الكثير منهم إلى بلاد الأناضول لم يجده نفعا ولم يحسن بذلك صنعا ، حيث أدى إلى ما لم يكن له بالحسبان ، ومن إثارة