الآستانة والأناضول للمذاكرة ودرس الشروط التي أمليت عليهم وطال الأمر.
أما بقية المسجونين في مالطة فكانوا يراجعون مجالس الدولة بلهجات شديدة ويقدمون الاحتجاج تلو الاحتجاج ، ولكن ما من منصف أو عادل ولا سامع ولا مجيب ، بيد أنه خفف التضييق عليهم كثيرا بالنسبة للحالة الأولى.
وكان قد مضى على نفيهم وتبعيدهم سنتان ونصف قاسوا فيها أنواع المشقات والأهوال ، فلما رأى بعضهم هذا الإهمال والتغاضي من دولتهم وأمتهم ، وبعبارة أخرى لم يتمكنوا من تخليصهم من الأسر ولم تجدهم مراجعات الدول نفعا ، أخذوا يفتكرون ويتذاكرون في الهرب من مالطة ويعملون الحيلة فيه ولو كان في ذلك ارتكاب جلائل الأخطار ، فقسم منهم وافق وآخر لم يوافق ورضي بالبقاء ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فأجمع الذين قرروا على الهرب على كيفية ذلك وخابروا بعض من كان يمكنه أن يهربهم ، وتم الأمر ، ففي ذات ليلة ركبوا زورقا وابتعدوا عن الساحل ، وكانت بانتظارهم عن بعد باخرة عادية لا تستلفت الأنظار ، فوصلوا إليها وكان عدد الفارين ثلاثة عشر رجلا من جملتهم المترجم وعلي إحسان باشا وعلي جناني بك العينتابي ، فركبوا الباخرة وأخذت تمخر بهم عباب البحر وهم يقولون : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) ومذ ركبوا الباخرة لبسوا ثيابا رثة وغيروا هيآتهم واختبؤوا في أطراف السفينة خشية من طارىء غير مأمول ، وبعد ساعات مضت رست بهم الباخرة في بلدة في الساحل الغربي من إيطاليا قريبة من مالطة ، فنزلوا إليها ، وحينئذ تنفسوا الصعداء وزال ما كان بهم من اضطراب وقلق واستراح بالهم.
أما الإنكليز فإنهم لم ينتبهوا للأمر إلا بعد ساعات ، فقام بينهم الضجيج ، وفي الحال سيروا البوارج والمدمرات وأخذت تفتش عليهم في عرض البحار ، فلم يعثروا لهم على أثر ، وتبين للملأ أنه يوجد في العالم رجال دهاة ذوو رأي وتدبير لا يقلون عن رجال الإنكليز.
أما الهاربون فإنهم بعد نزولهم إلى تلك البلدة كانوا كلما ذهبوا إلى فندق لا يقبلهم صاحبه ولا يكترث بهم لرثاثة ثيابهم ورعونة منظرهم ولما في وجوههم وأيديهم من سواد الفحم والدخان ، ظلوا على ذلك إلى أن قيض الله لهم رجالا عرفوهم فاحتفلوا بهم وأكرموا مثواهم وأخفوا أمرهم ، ولم يبقوا في هذه البلدة إلا زمنا قليلا ، وكانوا قد استراحوا مما