من اشتغل بتدبير شيء ، فإنّه لا يمكنه تدبير شيء آخر ، فإنه لا يشغله شأن عن شأن ، وإذا تأمّل العاقل في هذه الآية علم أنّه ـ تعالى ـ يدبّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح ، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير عن تدبير ، وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ في ذاته ، وصفاته ، وعلمه ، وقدرته غير مشابه للمخلوقات ، والممكنات.
قوله (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يبين الدلالات الدّالة على إلاهيته ، وعلمه ، وحكمه.
واعلم أنّ الدّلائل الدالّة على وجود الصّانع قسمان :
أحدهما : الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك ، والشمس ، والقمر ، والكواكب وهذا القسم تقدّم ذكره.
والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة ، وهي الموت بعد الحياة ، والفقر بعد الغنى ، والهرم بعد الصحّة ، وكون الأحمق في أهنأ العيش ، والعاقل في أشد الأحوال ، فهذا النّوع من الموجودات ، والأحوال دلالتها على وجود الصّانع الحكيم ظاهرة.
فقوله : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) إشارة إلى أنّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز ، والتفصيل.
ثم قال : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) لكي توقنوا بوعده ، وتصدّقوا.
واعلم أنّ الدلائل الدالة على وجود الصّانع الحكيم تدلّ أيضا على صحّة القول بالحشر والنشر ؛ لأنّ من قدر على خلق هذه الأشياء ، وتدبيرها على عظمها ، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر ، والنشر أولى.
وروي أنّ رجلا قال لعليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ : كيف بحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ قال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة (١).
واعلم أنّه ـ تعالى ـ كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيّة ، والنيرات الكوكبية في الجو العالي ، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثّرى لا يشغله شأن عن شأن ، كذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.
واعلم أنّ لفظ «اللّقاء» يدل على رؤية الله ـ تعالى ـ وقد تقدّم تقريره.
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) [الآية : ٣] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها ، قال الأصم : المد : البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله : (مَدَّ الْأَرْضَ) ليشعر بأنّه تعالى جعل حجم الأرض حجما عظيما ، لا يقع البصر على منتهاه ، وقال قوم كانت الأرض مكورة فمدّها ، ودحاها من مكّة من تحت
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٧).