قال القاضي (١) : هذا ، وإن كان محتملا ؛ لكن حمل اللفظ على الحقيقة أولى.
قال ابن الخطيب (٢) : «أقول على نصرة الأصم ، بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحال ، وذلك غير حاصل ، فإنهم يحملون هذا اللفظ على أنّه سيحصل هذا المعنى ، ونحن نحمله على أنه حاصل في الحال ، والمراد بالأغلال ما ذكره ، فكلّ واحد منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه ، فلم كان قولكم أقوى؟».
وقيل : المعنى : أنّه ـ تعالى ـ يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر : ٧١] إلى قوله : (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧٢].
ثم قال : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والمراد منه التّهديد بالعذاب المخلد المؤبّد ، وذلك يدلّ على أنّ العذاب المؤبّد ليس إلا للكفّار ؛ لأن قولهم : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) يدلّ على أنّهم هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم فدل على أنّ أهل الكبائر لا يخلدون في النّار.
فإن قيل : العجب هو الذي لا يعرف بسبب ، وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال ، فكيف قال : «فعجب قولهم»؟.
فالجواب : المعنى : فعجب عنك.
فإن قيل : قرأ بعضهم : «بل عجبت» بإضافة العجب إلى نفسه.
فالجواب : أنّا قد بيّنا أنّ مثل هذه الألفاظ يجب تنزيهها عن مبادىء الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض ونهاية التعجب أن الإنسان إذا تعجّب من الشيء أنكره ، فكان التعجب في حقّ الله ـ تعالى ـ محمولا على الإنكار.
قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) واعلم أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة ، وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلّما هددهم بعذاب القيامة ، أنكروا القيامة ، والبعث ، والنشر كما تقدّم في الآية الأولى ، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه ، وذلك أنّ مشركي مكّة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢].
قوله «قبل الحسنة» فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بالاستعجال ظرفا له.
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنّه حال مقدرة من السيئة ، قاله أبو البقاء. قوله «وقد خلت» يجوز أن تكون حالا وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون مستأنفة.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٨.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٨ ـ ٩.