حال اشتغالهم بالظلم كما يقال : رأيت الأمير على أكله ، أي حال اشتغاله بالأكل ، وهذا يقتضي كونه تعالى غافرا للناس حال اشتغالهم بالظلم ، ومعلوم أنّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائبا ؛ فدلّ هذا على أنه ـ تعالى ـ قد يغفر الذّنوب قبل الاشتغال بالتوبة ، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر ؛ فوجب أن يبقى معمولا به في حق غير الكفرة ، وهو المطلوب.
ويقال : إنّه ـ تعالى ـ لم يقتصر على قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) بل عطف عليه قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر ، ويحمل الثاني على الكفّار.
قال المفسرون : «لذو مغفرة» لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبين إذا تابوا.
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : أرجى آية في القرآن هذه الآية : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) إذا أصرّوا على الكفر (١).
وروى حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رحمهالله تعالى قال : لما نزلت : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو لا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحدا عيش ولو لا عقابه ووعيده وعذابه لاتّكل كلّ أحد»(٢).
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصّغائر لأجل أنّ عقوبتهم مكفرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد إنّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا ، وأنه ـ تعالى ـ إنّما لا يعجل العقاب إمهالا لهم في الإتيان بالتّوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ، ويكون المراد من هذه المغفرة [تأخير العقاب] إلى الآخرة ، بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه ؛ لأنّ القوم طلبوا تعجيل العذاب ، فيجب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السّؤال.
ثم يقال : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : (لَذُو مَغْفِرَةٍ) إمهالهم بالتّوبة ، ولا يعجل بالعقوبة ، فإن تابوا ، فهو ذو مغفرة ، وإن لم يتوبوا ؛ فهو شديد العقاب؟.
فالجواب عن الأوّل : أن تأخير العذاب (٣) لا يسمى مغفرة ، وإلّا لوجب أن يقال :
__________________
(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ١٨٧).
(٢) ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٤ / ١٤٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم والثعلبي من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٨٦) عن ابن عباس وعزاه إلى الطبري.
(٣) في أ : العقاب.