اختصت به مكة من زيادة الأمن ، وهو أنّ من التجأ إلى مكّة أمن ، وكان النّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكّة لا يخاف بعضهم بعضا ، ولذلك أمن الوحش ، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النّاس إذا كانوا خارج مكّة.
وعن الثاني قال الزجاج : معناه : ثبّتني على اجتناب عبادتها ، كما قال : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة : ١٢٨] أي : ثبتنا على الإسلام.
ولقائل أن يقول : السؤال باق ، لأنه من المعلوم أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ثبت الأنبياء على الإسلام ، واجتناب عبادة الأصنام ، فما الفائدة في هذا السؤال؟.
قال ابن الخطيب (١) : والصحيح عندي في الجواب وجهان :
الأول : أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وإن كان يعلم أنّ الله ـ تعالى ـ يعصمه من عبادة الأصنام ، إلّا أنه ذكر ذلك تضعيفا للنفس وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب.
والثاني : أنّ الصوفية يقولون : إنّ الشرك نوعان : شرك ظاهر ، وهو الذي يقوله المشركون ، وشرك خفي ، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة. والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط ، وأن لا يرى متوسطا سوى الحق ـ سبحانه وتعالى ـ فيحتمل أن يكون قوله (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) المراد أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي ، والله تعالى أعلم.
والجواب عن الثالث من وجوه :
أحدها : قال الزمخشري (٢) : «قوله «وبنيّ» أراد بنيه [من صلبه](٣)».
والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله : «واجنبني وبنيّ».
وثانيها : قال بعضهم : أراد من أولاده ، وأولاد أولاده كل من كان موجودا حال الدّعاء ، ولا شك أنّ دعوته مجابة فيهم.
وثالثها : قال مجاهد : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ صنما ، والصنم هو التمثال المصور ، وما ليس بصنم هو الوثن ، وكفّار قريش ما عبدوا التمثال ، وإنما كانوا يعبدون أحجارا مخصوصة.
وهذا الجواب ليس بقوي ؛ لأنّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله ، والحجر كالصّنم في ذلك.
ورابعها : أنّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده ، بدليل قوله في آخر الآية
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٠٥.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٨.
(٣) في ب : لصلبه.