«وسكّرت : حيّرت أو حبست من السّكر أو السّكر ، وقرىء : «سكرت» بالتخفيف ، أي : حبست كما يحبس المهر عن الجري» ، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين ، وقراءة التخفيف محتملة لمعنى واحد.
وأما قراءة الزهريّ ، فواضحة ، أي : غطيت ، وقيل : هي مطاوع : أسكرت المكان فسكر: أي : سددته فانسدّ.
(بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ، أي عمل فينا السّحر ، وسحرنا محمّد صلىاللهعليهوسلم.
فإن قيل : كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكّين في وجود ما يشهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ؛ ولو جاز حصول الشكّ في ذلك ، كانت السّفسطة لازمة ، ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة؟.
أجاب القاضي ـ رحمهالله ـ : بأنه ـ تعالى ـ ما وصفهم بالشكّ فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة ، ثم سأل نفسه ، أيصحّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات؟.
وأجاب : بأنه يصحّ ذلك ، إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجّة أو غلبة خصم ، وأيضا : فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين ، سألوا الرسولصلىاللهعليهوسلم إنزال الملائكة ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساء القوم ، وكانوا قليلي العدد ، وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة ، جائز.
قوله : «فظلّوا» يقال : ظلّ فلان نهاره يفعل كذا : إذا فعله بالنّهار ، ولا تقول العرب : «ظلّ يظلّ» إلّا لكلّ عمل بالنهار ؛ كما لا يقولون : بات يبيت إلا بالليل ، والمصدر الظّلول.
والعروج : الصّعود ، يقال : عرج يعرج عروجا ، ومنه : المعارج ، وهي المصاعد التي يصعد عليها.
فإن قلنا : إن الضمير في : «فظلّوا» للملائكة ، فقد تقدم بيانه ، وإن قلنا : يعود على المشركين ، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «فظلّ المشركون يصعدون في تلك المعارج ، وينظرون إلى ملكوت الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقدرته ، وسلطانه ، وإلى عباده ، وملائكته ـ عليهمالسلام ـ لشكّوا في تلك الرؤية ، وأصرّوا على جهلهم وكفرهم ؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله» (١).
قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٩٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٦) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.