واعلم ـ أنه ـ تعالى ـ قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] ، وقال تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧] ، وقال هاهنا : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ، فطريق الجمع أنه جعل التّراب طينا ، ثم تركه حتّى صار حمأ مسنونا ، ثم خلقه منه ، وتركه حتى جفّ ، ويبس وصار له صلصلة.
واعلم أنه ـ تعالى ـ قادر على خلقه من أي جنس أراد ، بل هو قادر على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه ؛ إما لمحض المشيئة ، أو لما فيه من دلالة الملائكة ؛ لأنّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشّيء من جنسه.
وسمّي إنسانا : إما لظهوره وإدراك البصر إياه ، وإمّا من النسيان ؛ لأنه عهد إليه فنسي.
عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : بعث الله ـ تعالى ـ جبريل ـ عليهالسلام ـ إلى الأرض ؛ ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص منّي ؛ فرجع ولم يأخذ ، فقال يا ربّ : إنها عاذت بك ، فأعذتها ، فبعث ميكائيل ـ صلوات الله عليه ـ فعاذت منه ، فأعاذها ؛ فرجع ، فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموت ، فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخلطه ، ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء ، وبيضاء ، وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين (١).
وسمّي آدم ؛ لأنه خلق من أديم الأرض ، وصعد به ، فقال الله تبارك وتعالى : «أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك»؟ فقال : رأيت أمرك أوجب من قولها ، فقال ـ جل ذكره ـ : «أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طينا لازبا ، وهو يلتصق بعضه ببعض ، ثم ترك ، حتى أنتن ، وصار حمأ مسنونا ، وهو المنتن.
ثم قال للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، فخلقه الله بيده ؛ لئلا يتكبّر إبليس عليه ، لقول الله تعالى : أتتكبّر على ما عملت بيدي ، ولم أتكبر أنا عليه؟.
فخلقه فكان جسدا من طين أربعين عاما ، فلما رأته الملائكة ، فزعوا منه ، وكان أشدّهم منه فزعا إبليس فكان يمرّ به ، فيضربه ؛ فيصوت الجسد كما يصوت الفخّار ، وتكون له صلصلة ؛ فذلك قوله : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤] ، ويقول : لأمر ما خلقت! ويدخل في فيه ، ويخرج من دبره ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه ؛ فإنه أجوف ، ولئن سلّطت عليه ، لأهلكنّه ، فلمّا نفخ فيه الروح ، ووصل إلى رأسه ، عطس ، فقالت الملائكة ـ عليهمالسلام ـ : قل : الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربّك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت الروح
__________________
(١) تقدم تخريجه.