ثمّ أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء ، فحريّ بنا أن نحقّق المقام ونوضّحه بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهمالسلام. فنقول : التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيّين ، كما هو المستفاد من كلامهم عليهمالسلام ، وهو الحقّ عندي.
ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لا بعده إلّا على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ الواقعة عن حكم.
____________________________________
المجتهدون ، إنّ ـ خبر لقولنا : وحاصل ما أفاده ـ التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يجوز قبل إكمال الدين بعد الالتزام بأحد أمرين على نحو منع الخلوّ ، أي :
إمّا القول بإنكار الحسن والقبح العقليّين ، كما عليه الأشاعرة.
وإمّا إنكار الملازمة بين حكم العقل والشرع كما هو الحقّ عند الأخباريّين ، إذ أكثر الوقائع كانت قبل إكمال الدين خالية عن الحكم الشرعي ، فيمكن الظن فيها بانتفاء الحرمة أو الوجوب واقعا بمقتضى استصحاب البراءة الأصليّة ، لانتفائهما سابقا وعدم الدليل عليهما عقلا وشرعا ، لأنّ العقل لم يحكم بالحسن والقبح على عقيدة الأشاعرة ، أو يحكم بهما ، إلّا إنّ الشرع لا يحكم بالحرمة أو الوجوب على القول بعدم الملازمة بينهما ، فيحكم بانتفاء الحرمة في محتمل الحرمة بالبراءة الأصليّة ، وانتفاء الوجوب في محتمل الوجوب بها.
والحاصل أنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة مبنيّ على أمر باطل بالضرورة والوجدان ، وهو عدم إكمال الدين ، وخلوّ بعض الوقائع عن الحكم الشرعي ، وقد تواترت الأخبار بأنّ ما من واقعة إلّا وقد تعلّق بها حكم شرعي ، كما هو المستفاد من قول النبي صلىاللهعليهوآله في خطبة الوداع ، حيث قال صلىاللهعليهوآله :
(ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار إلّا وقد نهيتكم عنه) (١).
فلا يصحّ التمسّك بالبراءة الأصليّة بعد إكمال الدين ، وعلى القول بالملازمة
__________________
(١) الكافي ٢ : ٧٤ / ٢. الوسائل ١٧ : ٤٤ ، أبواب مقدمات التجارة ، ب ١٢ ، ح ٢.