الكسب جمعاً بين الأدلّة.
أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوصُ الثانية وما يظاهرها من برهان العقل فرجّحوها وقالوا : إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم : أليس الله خالق كلّ شيء ومنها أعمال العبد؟ قالوا : بلى إنّه خالق كلّ شيء حتّى أعمال عباده الاختيارية ، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني ، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها ، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده ، ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.
ثمّ قال هو : ولقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله ، ويؤمنون بقدره وأمره ، ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل وأنّ الله خالق كلّ شيء ، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً ، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون ، فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرّضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في امتثال أمره ، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه ، لأنّهم لم يكلّفوه ، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إيّاه ، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد ، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً).